هشام النجار يكتب: مساءلة موضوعية لمحور المقاومة والإسلام السياسي

ذات مصر

بصرف النظر عن أي فرز أو تصنيفات أو انحيازات تقول القراءة الموضوعية للمشهد أننا أمام مواجهة كبرى بين (الغرب) وأميركا ووكيلتهم وذراعهم بالشرق الأوسط إسرائيل، وفي الجهة الأخرى (الشرق) الذي تصدر مشهده إيران ووكلاؤها وأذرعها من كيانات الإسلام السياسي السني والشيعي، بعد تراجع قوى القومية العربية.

هي مواجهة مصالح من وجهة نظري لا مكان فيها للأيديولوجيا سوى للتوظيف والحرب بالوكالة، سواء من جانب إسرائيل بالنسبة لأميركا والغرب أو فيما يتعلق بتشكيلات الإسلام السياسي بشقيه تحت زعامة إيران.

 ليس من المرجح أن تصل المواجهة إلى حسم كوني يعلن المنتصر فيه سيادة حضارة على أخرى ويدعي المنتصر فيه أنه قضى على مصدر الشرور في العالم (كل من وجهة نظره)، بالنظر إلى تعقيدات المشهد وتشابكات المحاور والتوظيف المتبادل ومساحات المصالح المشتركة وأوراق الضغط والحدود المسموح بها لدى كل طرف للوصول إليها خلال صراع خشن قد تستنزف فيه من جهة ذراع ووكيلة أميركا والغرب (إسرائيل) ومن جهة أخرى أذرع إيران خاصة (حزب الله وحماس).

أميركا وكأنها تلوذ بإسرائيل هنا (وليس العكس كما هو ظاهر للكثيرين)؛ لأن الأولى مثخنة بجراح الهزائم بعد مواجهات خاضتها ضد قوى الإسلام السياسي في العالم، فهي خارجة للتو من هزيمة مهينة في أفغانستان، ورغم حجم ما أنفق من أموال واستخدم من سلاح وأُهدر من أرواح لم تستطع وعشرات الدول معها (التحالف الدولي) القضاء على داعش والقاعدة المركزي، وهي بحاجة إلى أن تشم رائحة انتصار من خلال وكيلتها إسرائيل تحفظ به مكانتها ونفوذها ومصالحها في الشرق الأوسط والعالم.

إيران من جهتها تريد ألا يتجاوزها أحد وأن تظل لاعبًا وطرفًا رئيسيًا في المعادلة الدولية والإقليمية، وألا يُستبدل بنفوذها وحضورها نفوذ وحضور قوى أخرى، خاصة إذا كانت منافسة لها.

لا إسرائيل ولا حماس ولا أي وكيل من الوكلاء وذراع من الأذرع بيده من الأمر شيء؛ ومن بيده الكبس على زر إيقاف الحرب والصراع هما بدون مواربة ولا خداع ممثلة الغرب (أميركا) ومن فرضت نفسها لتمثيل الشرق (إيران).

السؤال المركزي هنا هو كالآتي:

هل خاض محور إيران (محور المقاومة) الذي يقدم نفسه ممثلًا للشرق في مواجهة الحضارة الغربية ووكيلتها إسرائيل، المواجهة بغية إشعال حرب مفتوحة لتحرير كل فلسطين وإنقاذ المسجد الأقصى، بمشاركة فاعلة من أذرعه الممتدة جغرافيًا من طهران إلى صنعاء مرورًا ببغداد ودمشق وبيروت؟

وهل أرادت الزعامة (الفارسية) أن تثبت أنها الأحق والأجدر من الزعامة (العربية) بهجوم حمساوي منسق مع حزب الله في السابع من أكتوبر لعبور خط السياج الحديدي (الحصين) وتحرير الأرض وإعلان الانتصار بعد القتال على جبهتين متزامنتين واحدة بالشمال وأخرى بالجنوب، لتكرار المُنجز المصري-العربي عندما انتصر الجيشان المصري والسوري قبل خمسين سنة بعد حرب على جبهتي سيناء وهضبة الجولان؟

لو حدث هذا لحفر محور إيران لنفسه مكانة وزعامة ممتدة لعقود طويلة قادمة، للأمة ولشرق جريح وكسير ومُهان ومستنزف الثروات والموارد، ولحظي بمكانة كبيرة في العالم العربي ولدخل قلب كل مسلم وكل عربي دون استئذان.

هناك تحدٍّ كبير وهائل أمام إيران ووكلائها بسبب التكاتف الغربي والأميركي القوي وغير المسبوق مع إسرائيل، وما فعلته أميركا بنشر أسلحتها النوعية المتقدمة في المنطقة حال دون التحاق فصائل محور المقاومة غير الفلسطينية بالصراع العسكري الذي لا يزال محصورًا بشكل رئيسي في غزة وبين حماس وإسرائيل، رغم العديد من المناوشات على جبهات أخرى.

طالما قالت إيران وقال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله وقال قادة حماس أنهم بصدد القضاء على إسرائيل وتدميرها، وقال المرشد الإيراني علي خامنئي في الثالث من أكتوبر الماضي (أي قبل هجوم طوفان الأقصى بأربعة أيام): (إسرائيل سيتم تدميرها).

لكن يا فخامة المرشد، يُنسب للرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون قوله الذي أوافقه عليه تمامًا: (لا تخبر أحدًا بأنك سترسله إلى الجحيم، ما لم تكن تنوي إرساله إلى هناك فعليًا).

مع مرور الوقت أفاق العدو الإسرائيلي من صدمة هجوم السابع من أكتوبر الضخم والمباغت وسرعان ما استعاد توازنه ولم تؤثر كثيرًا مشاغلة حزب الله له على الحدود في رده وصده أو حتى إبطاء هجومه الشرس والانتقامي ضد كل من يتحرك ويتنفس في غزة وليس ضد مقاتلي حماس فقط.

وهذا يثير التساؤل الرئيسي بشأن خوض حماس بمفردها حربًا كهذه، ولماذا لم ينضم حزب الله إلى المعركة منذ البداية مقتحمًا الحدود والمستوطنات القريبة، وهذا لو حدث لأربك حسابات الغرب وأميركا ولترك إسرائيل لفترة طويلة شبه مشلولة قبل أن تكون قادرة على الرد.

خطاب قائد كتائب عز الدين القسام الذي نشرته حماس يوم السابع من أكتوبر عكس بوضوح رهانًا على انضمام قوى محور المقاومة إلى المعركة مع بداية انطلاقها وكانت الفرصة أكثر من سانحة في الساعات الأولى من الهجوم مع انهيار قوات غلاف غزة.

فوت محور المقاومة فرصة كبيرة ولم يستثمر الضربة القوية الأولى المباغتة لتحطيم إسرائيل نفسيًا وميدانيًا، (ولتحقيق منجز تحريري على الأرض ولو جزئي كالذي حققه العرب في السادس من أكتوبر 1973م) ووضح من الخطاب الإيراني أن طهران غير مستعدة لمواجهة الغرب والولايات المتحدة عسكريًا من أجل غزة، وأنها مهتمة بالحلول السياسية من خلال طرح دبلوماسي مفتوح على تفسيرات مختلفة.

لكن أي حلول سياسية هنا؟

هل هو حل الدولتين؟ لو كان الأمر كذلك لعُد هزيمة ونهاية لمحور المقاومة الذي يستمد شرعيته العلنية وتمايزه عن الزعامة العربية للشرق من رفضه لحل الدولتين وادعائه الاستعداد للقتال من أجل فلسطين حتى تحريرها كاملة والقضاء على إسرائيل.

تقدمت إيران إذن وتصدرت زعامة الشرق وتحركت كيانات محورها لتحقيق أهدافها المعلنة والتي وردت في بيانات قادة حماس عقب شن هجوم طوفان الأقصى، أما ما حدث فعليًا ويجري تدشينه فهو مسار وضع الشرق الأوسط -بالآلام والدماء والمعاناة- تحت هيمنة إسرائيل الكبرى، وكيلة أميركا والحضارة الغربية.

نحن لم نرَ تحريرًا لفلسطين ولا عبورًا جديدًا ولا استعادة لمدينة واحدة ولا قرية، بل صورة للشرق الأوسط الجديد كتلك التي تحدث عنها رؤساء زعيمة الغرب (أميركا) وكالتي رسمها بنيامين نتنياهو، وهو يحمل خريطة لا وجود فيها لدولة فلسطينية وقد طغى اللون الأزرق وعليه كلمة إسرائيل شاملًا الضفة الغربية المحتلة كاملة وقطاع غزة.

وربما يناوش حزب الله عسكريًا متأخرًا لكن ليس لتغيير ووقف ما يجري وجرى في غزة والضفة، إنما محاولًا منع إلحاق معادلات ساحة جنوب لبنان بخطط إسرائيل التي لا تكتفي بتأمين نفسها على جبهة غزة، بل أيضًا على حدودها الشمالية.

وإذا لم تثمر المساعي الأوربية السلمية الجارية حاليًا عبر المسار الدبلوماسي في جعل القرار الدولي رقم 1701 الخاص بإخلاء جنوب نهر الليطاني حيز التطبيق، ما يتطلب إبعاد مقاتلي حزب الله عن الحدود، لن تتواني إسرائيل في إكمال خطط الاستئصال والتهجير في جنوب لبنان أيضًا بالقوة المسلحة وبرضا دولي.

وبعد أن كانت الراية المرفوعة هي تحرير فلسطين والأقصى صار الحديث عن تغيير جغرافي وديمغرافي يطول الشرق الأوسط كله وليس فلسطين وحدها.

أعلم أن إسرائيل مهزومة لا محالة وستدفع ثمن غطرستها وجرائمها وأن فلسطين وشعبها منتصرون لا محالة حتى وهم في أشد أوقاتهم معاناة وضعفًا، فالمظلوم وصاحب الحق منتصر وان طال الانتظار.

نحن هنا بصدد تشريح الواقع والتاريخ لفهم ما يجري، وللإجابة على أسئلة محورية ومصيرية؛ منها: لماذا لا ننتصر كشرق مضطهد مقموع منهوبة ثرواته وموارده، ومسلط عليه كيان مشكل من عتاة البشر وأشدهم قسوة؟ ومن الأجدر والأحق بزعامة هذه الأمة المسكينة المغلوبة على أمرها؟ ومن هو قادر فعليًا على النهوض بها وقيادتها للانتصار واسترداد الحقوق والكرامة؟

طرح محور المقاومة نفسه (إيران وحزب الله وحماس) –وأيضًا الإخوان المسلمون- وتصدروا للقيام بالمهمة، واليوم لا مفر من مساءلة تاريخية.

مساءلة ليس فقط عن هجوم طوفان الأقصى ومدى جدواه ونفعه للقضية الفلسطينية والفلسطينيين من عدمه، إنما أيضًا عن عقود بأكملها طرح خلالها هذا التيار بمجمله (الإسلام السياسي السني والشيعي) نفسه كبديل للمشروع العربي القومي بداية من توظيفه لضرب هذا التوجه منذ بزوغه مرورًا بالثورة الإيرانية والتمركز في لبنان والعراق وسوريا واليمن، والصعود في أعقاب ثورات الربيع العربي خلف الرئيس التركي أردوغان، ثم التراجع وصولًا للحرب الحالية.

إذن طرحت إيران (ووكلاؤها) نفسها زعيمة للشرق ومحررة لفلسطين وقائدة للأمة، فهل كانت جديرة بذلك؟ وهل حققت الريادة للأمة؟ وهل غيرت موازين القوى في مواجهة المشروع الصهيوني؟ وهل حققت الاستقلال عن الغرب؟

جرى إطلاق الشعارات الجاذبة للرأي العام على صعيد زعم امتلاك المشروع الأمثل لإصلاح الحكم بالمنطقة العربية، فهل عندما تولت أفرع الإسلام السياسي السني والشيعي السلطة حدث إصلاح للحكم؟

وجرى إطلاق شعارات أن محور المقاومة وجماعات الإسلام السياسي هي الأجدر والأقدر دون غيرها على مناهضة الغرب وإسرائيل وتحقيق الريادة واستعادة الأمجاد، فهل هُزمت الحضارة الغربية وهل اندحرت إسرائيل وتحررت فلسطين، وهل تحققت الريادة لحضارة الشرق وهل أُعيدت للأمة أمجادها؟