هشام الحمامي يكتب: "طوفان الأقصى" وكسر الطوق الحديدي عن المنطقة

ذات مصر

يعلم الجميع أن خروج الاحتلال البريطاني والفرنسي من المنطقة العربية والإسلامية كان مجرد تطوير لـ (حالة الاحتلال) لا أكثر وكان المخزن البريطاني العتيق هو من يقود هذه الحالة بامتياز، استنادا إلى تطويعه للحركة الطبيعية للتاريخ بعد الحرب العالمية الثانية، وتكوين الحلف (الأنجلو/أمريكي)الذى كان ولابد أن يكون يوما ما.

فالبروتستانت الإنجليز الذين استوطنوا أمريكا من يومها الأول، هم السبب الذي يجعل الولايات المتحدة الأمريكية على ماهي عليه اليوم، والمؤسسات السياسية والقانونية لهؤلاء المستوطنين والتي تم إنشاؤها في القرنين 17 /18، اقتبست كثيراً من مؤسسات وممارسات أواخر القرن 16 /17 في إنجلترا، كما ذكر صموئيل هنتنجتون(ت/2008) في كتابه (من نحن؟ تحديات الهوية القومية الأميركية) الصادر عن المركز القومى للترجمة عام 2008م.

***

كثير من الدارسين والباحثين يمرون على الفترة من 1945م إلى 1955م من القرن الماضي مرورا خفيفا، رغم أن السنوات العشر تلك هي أخطر سنوات القرن الـ 20 بالنسبة لتحديد مستقبل الشرق الأوسط الذى تكون وكان، واستمر حتى يوم 7 أكتوبر 2023م.!

السنوات العشر تلك حفلت بركائز هامة قام عليها هذا الشرق أوسط: توقيع اتفاقية (كوينسي) بين المملكة العربية السعودية وأمريكا(1945م)، قيام إسرائيل(1948م)، نهاية حكم الأسرة العلوية في مصر(1952م).. والباقي سيكون مجرد حواشي حول هذه الركائز.. 

وسيكون هاما هنا معرفة أن تلك الركائز الثلاث (شأنا دوليا/أمريكيا) بحتا .. بدأ كذلك ولازال.

***

أمريكا بتدخلها العسكري الشامل في معركة (طوفان الأقصى) أكدت أنها أكثر الأطراف فهما وبسرعة للمغزى الاستراتيجي لـها، وأنها قد تتحول إلى خطوة جبارة، من شأنها كسر (الطوق الحديدي) المفروض على المنطقة كلها من الخمسينيات. 

لم تدع أمريكا مجالا لأحد للتكهن بشأن ما الذي تدافع عنه، فدعم إسرائيل المطلق لم يكن إلا جزءا مما وصفته الإدارة الأمريكية بقولها (سنفعل كل شيء للدفاع عن مصالح أمريكا في المنطقة والعالم).

الذي قرأته أمريكا في النجاح المذهل لعملية (طوفان الأقصى)، هو أن ترك (حماس) تنتصر معناه أن زمام المبادرة في الشرق الأوسط امتلكته (شعوب المنطقة)، وهو ما يتعارض بنسبة 100% مع شرق أوسط روزفلت/1945م الذي أشرنا إلى ركائزه أولا.. والذى تكرس كـ (بداهات)، وتكرس كـ (بلاهات) ..!!

***

وعليه كان لابد من توسيع لعبة الإيهام، وضمان امتدادها، وكان قرار الدخول المباشر للحرب بجانب إسرائيل، ومدها بجسر أسلحة، ودعم عمليات (الإبادة) الإسرائيلية ومد إسرائيل بكل المعلومات الإستخباراتية والمشاركة التخطيطية من القيادة المركزية الأمريكية، بريطانيا أرسلت مراقبين للتحقق من عمليات الاستهداف للمدنيين في غزة، ورفضوا التعليق على ما يرونه من إبادة لم يعرفها العالم من قبل منذ هيروشيما، لكن ضابطا إسرائيليا قال: أن زواره (أعجبوا) بما رأوه، كما ذكرت (التايمز) في 4 ديسمبر الجاري.

كل ذلك تم وجرى بالتوازي مع العمل بكل الوسائل على منع توسع الحرب أو امتدادها، وساعد على ذلك أن المحور (الصيني الروسي) غير معنى بما يحدث، على الأقل في الوقت الراهن.

أسئلة كبرى ستطرح بعد (طوفان الأقصى) حول مستقبل الشرق الأوسط الذى لم يأت وقت تغيير خارطته بعد.. ومن المهم إلى جوار ذلك طرح أسئلة شارحه حول تاريخه وحاضره، ومن ثم، حول فهمنا للركائز الأساسية للصراع الدائر في المنطقة مما يقرب من قرن لنعرف جيدا: من هو العدو؟ ومن هو الصديق؟

***

لم تنجح (المقاومة) في غزة في تخطيط وإدارة وتنفيذ عملية واسعة ومعقدة وبدرجة عالية ورهيبة من السرية والكفاءة والتنظيم والتضحية فقط، بل وجهت ضربة عميقة وأليمة لإسرائيل (وصفها جالانت وزير الدفاع بأنها حرب البقاء الثانية) يقصد بعد حرب 1948م.. 

والطريف أن قبل هذا التصريح بأيام(27 /11) كان الأستاذ الكبير (فهمى هويدي) قد قالها نصا في حواره مع بقناة الجزيرة مباشر “إن ما حدث استدعى القضية برمتها من يومها الأول (يوم تأسيس دولة إسرائيل)”.. تصريح جالانت كان في 18 ديسمبر!

***

استطاعت(طوفان الأقصى) وبقوة لافحة، أن تفرض شعوب المنطقة مجددا، كفاعل تاريخي يشارك بقوة في رسم مسار تغيير المنطقة بل والعالم، وحالة الهياج الأميركي الحالية  تفسر وتشرح أن الضربة التي وجهتها (حماس) إنما طالت المشروع(الغربي، الأنجلو/أمريكي) نفسه، و بما يشمله من خطط واستراتيجيات وأنظمة استخبارات وأسلحة وتمويل.

مستشار الأمن القومي الأميركي (جاك سوليفان) قال في زيارته الأخيرة للمنطقة: إن هجوم حماس شكل (نقطة انعطاف عالمية).

***

قد يصعب التوقع بما سيأتي به الغد، لأن المعركة بالفعل استراتيجية وكبيرة وصعبة ودقيقة ومكلفة جدا، لكن هناك حقائق تم إحيائها من جديد، ما يجعل معركة (طوفان الأقصى) بالفعل نقطة انعطاف عالمية.. وبما قد يأخذ المنطقة برمتها لمكان آخر، تأخرت عنه كثيرا.. تأخر كان مقصودا تماما ومرصودا تماما.

دائما كان هناك تيار عريض في (الشرق الأوسط) يرى الصراع منذ الحرب العالمية الأولى (1918م) بصورته الحقيقية الأوسع ودائما كانت (الحركات الشعبية) في قلب هذه الصورة، ولطالما تم إشغال هذا التيار.. وإبعاده ومحاصرته في صراع ضيق مع الأنظمة، بل والعمل على تقوية وتأجيج هذا الصراع، وبأشكال كثيرة.. لكن بعد 7 أكتوبر.. سيعيد هذا التيار العريض تقييم ما كان يعتقد أنه صوابا.

(طوفان الأقصى) جاءت.. وفي وقتها الصحيح تماما جاءت .. ليس فقط لكسر الطوق الحديدي المفروض على المنطقة كلها من بعد الحرب العالمية الثانية.. ولكن لكسر طوق المعرفة الخطأ بالواقع، وبما هو صواب وما هو خطأ، بما هو هام، وبما هو أهم.

فالصورة باتت أوضح اليوم، من أي وقت سبق.