هشام الحمامي يكتب: يومي وأمسي.. وما قد يكون غدي؟ (الفيتو الأمريكي)

ذات مصر

حينما قال أنطونيو جوتيريش (74 عاما) الأمين العام للأمم المتحدة (البرتغالي الجنسية) والذي قد يكون في جيناته أثر من تاريخ كريم.. حينما قال أن (7 أكتوبر لم يحدث من فراغ) استقبح عليه وزير خارجية إسرائيل بكل السفاهات والبذاءات، قائلا له بكل تبجح: أين تعيش يارجل؟.

وسفاهته هنا لا تعكس سوء أدب فقط، ولكن تعكس أيضا سوء إدراك وخمول ذهني (واضح جدا في ملامحه)، فهو لا يعرف أن هناك في منطق الأشياء ما يعرف بـ (السياق).. والذي هو: جوهر المعنى المقصود في أي موضوع.

والسيد “جوتيريش” كإنسان يمتلك عقل راشد، أراد أن (يؤصل) الحدث ويربطه بسياقه وجوهره، كما يفعل كل ذي عقل. 

فالأحداث السياسية الهامة لا تهبط علينا فجأة من سماء خريفية غائمة.. إذ لابد لها من جذور نمت ومنها وتفرعت.. وإذا أردت إصلاحا وتصحيحا لموقف ما.. فعليك بتاريخ ميلاده الأول، وتطور مراحل تصاعده من جذوره البعيدة.. وإلا فأنت تلهو، أو تتسلى، أو تتغابى أو تتأمر أو تتواطئي..

والرجل ليس كذلك فيما يبدو، ولا يريد لنفسه القيام بأي من تلك الأدوار السابقة.. 

***

في كل المواقف التي صرحت فيها المؤسسة الدولية الأم (الأمم المتحدة)، بما يجب عليها أن تصرح به في الإبادة والإفناء الذي دخل شهره الثالث في غزة ويراه العالم كله كل يوم. 

وهي وإن كانت طوال تاريخها، تحوم حولها شبهات الانحياز للغرب الاستعماري القديم/الجديد، إلا أن من يرأسها في النهاية هو شخص، له كرامة، وله اسم وله تاريخ، وسيكتب عنه شيئا ما، يوما ما، ولو بعد حين. 

ومهم هنا أن نتذكر (داج همرشلد) أهم وأعظم أمين عام للأمم المتحدة (1961م) وحصل على نوبل بعد موته في سابقة لم تحدث.. 

تؤكد كل الأراء والاستنتاجات، أنه قٌتل عمدا في حادث الطائرة التي تحطمت به فوق زامبيا.. 

لماذا قٌتل؟.. 

لأنه كان على وشك تحقيق تسوية مهمة في الكونغو بين الانفصاليين والحكومة، تسوية تتعارض مع مصالح مهمة للغاية لكل من أمريكا وبريطانيا وبلجيكا، في أحد الأقاليم الغنية باليورانيوم والنحاس والزنك، ويضاف إلى ذلك وكما وصفه المراقبون أنه كان: (يملك مهارات الوساطة والقدرة على الإقناع، إلى جانب الإرادة الحديدية، وهي الخصال جلبت له الكثير من الأعداء، ممن أرادوا استخدام الأمم المتحدة لتحقيق أغراضهم الخاصة). 

***

جوتيريش في النهاية شخصية دولية هامة، من وقت أن كان رئيس وزراء بلاده، ونجح في منصبه نجاحا دوليا ملفتا، وما سيتبقى منه ومن أثره، هو المواقف التي يفرضها (الشرف الإنساني) فرضا، على أي إنسان شريف .. 

وهو يعرف أن كل ما يقوم به من أدوار قوية، تجاه هذا التدمير الدنيء، وهذه الإبادة البربرية في غزة، لن يوقف حركة، ولن يحرك سكونا. 

ولكنه اختار احترامه لنفسه ولمنصبه، وأخذ الخطوة الهامة التي اتخذها، بتفعيل المادة 99 من الميثاق الأممي والتي يطلب فيها من (مجلس الأمن) حماية الأمن والسلام الدولي الذى بات مهددا من أفعال إسرائيل..

وهو على يقين من أن أمريكا ستستخدم (الفيتو) لمنع صدور قرار بوقف إطلاق النار.. 

***

وسنتوقف هنا قليلا أمام هسترة وهياج (إسرائيل/ الغرب)، من جملته الشهيرة التي ستبقى ما بقي هذا الصراع: 

(7 أكتوبر لم يحدث من فراغ)

فإسرائيل/ الغرب، لا يريدون لأي شيء لهما فيه مصلحة كبرى وهامة، أن يتخذ أي شكل من (الوحدة والاتصال)، لأن هاتين الصفتين، تمنحان أي مجال (مادي أو معنوي) قوة، ويكسبانه صلابه تعكس وجه الحق فيه..وهذه طبيعة الأشياء، كما هي دائما، وكما كانت دائما.. 

ولنا أن نتخيل أن إسرائيل، وفي أحد أهم أدوارها الوظيفية، هو منع اتصال الشرق الإسلامي بغربه.. والذي هو أصلا وكما سنتذكر، تم منع وحدته واتصاله جغرافيا وسياسيا بكل الألاعيب والمؤامرات.. 

فهل تتخيل أن يسمح لك أحد بالحديث عن هذا الصراع الخطير كوحدة واحدة، وأحداث متصلة؟ وبما يكسبه قوة وصلابة، تعكس وجه الحق فيه؟.. 

***

أين تعيش يا رجل؟ هكذا من الأخر الأخير!!.. إياك أن تجرؤ وتربط في هذا الصراع، أي حدث بحدث قبله، جاء منه، وبٌنى عليه..؟ 

لا أصل الصراع ولا حروبه ولا قراراته الأممية ولا مؤتمراته الدولية ولا أي شيء يمنحه قوة وامتلاء وزخما وحق حقيق.. 

هناك رواية واحدة للموضوع: (حماس)الإرهابية.. التي تقتل الأطفال وتغتصب النساء.. ومن هنا فقط تبدأ الحكاية.. 

لكن أهلنا في غزة، وفرساننا في المقاومة (حماس/ الجهاد).. أنتجوا صورة تاريخية جديدة رائعة للصراع وحكاية الصراع، وفى محطات متسارعة ونافذة وبالغة التأثير.. 

بدأ من قوة الفعل على الأرض (تقنيا وعسكريا وأمنيا) وانتهاء بمشاهد الميدان اليومية.. مرورا بجولة الأسرى، بكل ما فيها من نبل وإنسانية وخلق ودين.

وعليه فالحكاية التي أرادوا لها أن تبدأ وتستمر وتمتلئ كل يوم بفصول الكذب المتجدد.. لم تجدِ ولم تنفع ولم تحقق شيئا.. فقد كانت الصورة الأخرى ساحقة، ناطقة بكل أصوات التحضر الإنساني والرقي والشرف..

***

في بلدته (سيلدمير) بمقاطعه (يوركشاير) بإنجلترا أقامت الحضارة الغربية تمثالا لـ (مارك سايكس) مكتوبا عليه (إبتهجى يا قدس)..!

(مارك ت/1919م) الذى درس تاريخ وسياسة ودين في كامبريدج، وعاش طفولة تعيسة بين أب وأم يكره كل منهما الأخر، كما تقول سيرته الشخصية التي كتبها حفيدة كريستوفر، ونشر ملخصها موقع (إدراك) السوري.

وأنا أحد الناس الذين يربطون الشخصي بالموضوعي في أي (مجال)، وأدعو كل مهتم بالشأن العام، أن يقرأ السير الذاتية لكل الشخصيات التي برزت في التاريخ بأدوار واضحة وهامة.. وسيكتشف ببساطة، أن الإنسان (كٌل لا يتجزأ).. 

وليس هذا موضوعنا هنا على أي حال..

الحاصل أن (مارك سايكس) الإنجليزي، توصل إلى اتفاق تنفيذي مع (فرانسوا بيكو) الفرنسى سنة 1916م وتم تقسيم الشرق كله في الاتفاق، بعد سنة واحدة سيدخل الجنرال (إدموند اللنبي) الإنجليزي القدس قائلا: (اليوم انتهت الحروب الصليبية..

وبعدها بثلاثة سنوات سيدخل الجنرال (هنرى جورو) الفرنسي دمشق، ويذهب إلى قبر (صلاح الدين) قائلا: (ها قد عدنا يا صلاح الدين) .. 

القدس/فلسطين إذن هي رمز الصراع بين الشرق والغرب، وهذا هو المعنى الحي على مدى العصور والأجيال، منذ أن دخل الإسلام مرابع الإمبراطورية الرومانية، وقال للناس فيها: أن الإنسان خٌلق ليكون حرا كريما مكرما..

***

ولازالت الفكرة الصليبية إلى الأن ترفض هذا التعريف للإنسان، تتربص بكل فورة أو نهضة جديدة يقوم بها الإسلام في ذلك.. وهذا هو عمق الكراهية السوداء، وبجاحه الإنكار العمياء، في ما فعلته وتفعله حماس.. 

كل شيء سينتهى يوما ما، الحرب والأسرى والتدمير.. 

لكن الرعب كله من أن تتمدد(الفكرة).. فكرة القدرة والإرادة والإقدام، للتحرير والكرامة والتي شكلتها برسوخ صلب (طوفان الأقصى).

ولذلك (لن نسمح لحماس بالانتصار) كما قال وزير الدفاع الأمريكي..لكنه مسكين مغالط.. 

حماس انتصرت من يوم (7 أكتوبر) وانتهت المهمة.. والباقي سينهض به الزمان. 

في الغد سنسير بسرعة أشد.. وذات صباح أجمل سنمد أيدينا أطول من ذي قبل..