علي الصاوي يكتب: مصر وتركيا.. للعقلاء فقط

ذات مصر

لكل حقبة سياسية متطلباتها وظروفها الخاصة، والثبات على الرأي في السياسة قد يكون فضيلة لكنه فضيلة العقول الصغيرة كما يقول تشرشل، ومن يلتزم التصلّب في مواقفه على طول الخط يسحقه المد الهائل من المتغيرات السياسية والتقاء مصالح خصومه، ليجد نفسه في النهاية خارج الملعب ولا مكان له على الطاولة. 

أثارت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مصر غضبا واسعا على الرجل واصفين الزيارة بأنها تُناقض مواقفه السابقة وضد مبادئه الأخلاقية، يقرؤون العلاقات الخارجية بين الدول ومصالحها كقراءة علاقاتهم الشخصية وخلافاتهم الخاصة بلا تحرّز أو فهم، وهل استمر في العمل السياسي من مارسه بعاطفة وحسن نيّة؟ وهل نزل في السياسة وحي من السماء يلتزم به الفاعل السياسي في تعاطيه مع الأحداث والمتغيرات من حوله؟ أم أنه يُقدّر الأمور ويقبل بأهون الشرور وأخفّ الأضرار تحقيقا للمصلحة؟ إن حبال الودّ والعِرفان في السياسة ضعيفة وقد تنقطع في أول محطة تغيير وصدام طارئ، أما حبل المصالح فهو أقوى وأشد لأنه مفتول بخيوط كثيرة من الصعب نقضها، وهذا ما يؤسس للعلاقات السياسية بين الدول مهما اختلفت المواقف في الظاهر. 

قد تكون الجماعات السياسية المتحالفة مؤقتا مع دولة نكاية في نظام دولة ثانية إحدى تلك الخيوط التي تُقوّى من حبل مصالح هذه الدولة على طاولة التساوم والتفاوض مع الدولة الأخرى، وكل من يُعوّل على ثبات موقف دولة تَحالف معها لدعم قضيته فلا يلومن إلا نفسه حين يكتشف في نهاية الأمر أنه مجرد خيط مفتول في حبل مصالح الآخرين لتقويته، فإذا تصالح الجمعان واتفق رأيهما نقضوا عهدهم مع تلك الجماعات غير مأسوف عليهم، فمن يُلحق الهزيمة بنفسه لا ينتظر النصر من حليف أو غريب. 

في التقرير الأخير للاتجاهات العالمية لعام 2030 الذي يصدر عن المخابرات الأمريكية بشكل دوري وتستشرف أمريكا من خلاله مستقبل الدول الفاعلة على المستوى الدولي ومصير الدول التي تشتعل فيها بؤر التوتر، كان حظ الدول العربية من مخرجات التقرير أن بعضها سوف يفشل والبعض الآخر سوف يتفتت إلى دويلات متناحرة. 

التقرير لفت إلى شيء مهم بالنسبة لمنطقتنا وهو العمل على خلق توازن ضعف بين بعض الدول الإقليمية الكبرى عن طريق الاستنزاف، مثل السعودية وإيران، فالتقرير أوصى بإضعاف الطرفين عن طريق تعويم السعودية وتقويتها في مواجهة إيران لفترة معينة، ثم تقوية إيران ضد السعودية في فترة أخرى فلا يقع انتصار ولا هزيمة إلى أن يُستنزف الطرفين، ونفس الأمر مع مصر وتركيا من خلال استغلال اختلاف الإيديولوجيا السياسية بين الدولتين وإذكاء روح العداء بينهما لخلق توازن ضعف يحولهما إلى ديوك متناحرة في مزرعة السياسة لا تُقدم ولا تُؤخر، وصل الأمر إلى محاولة جرّهما إلى صدام عسكري في ليبيا، فلا مصلحة للقطيعة بين الدولتين غير أنها تُقوّى من مناعة وفاعلية خطط دولية لا تريد لمنطقتنا الأمن والاستقرار.

تعاني تركيا من مشكلة كبيرة في فاتورة الطاقة التي تشكل عبئا كبيرا على ميزانية الدولة وتؤثر على تحركاتها السياسية من أن تكون أكثر مرونة وحرية وسيادة، وقد أدرك الرئيس أردوغان ونخبته السياسيّة، أنّ توسيع نفوذ أنقرة وتقوية مكانتها الاستراتيجيّة في المنطقة مرهونٌ بتعزيز أمن الطاقة وإيجاد حلولٍ لحالة الاختلال الفادح التي يُمثّلها اعتماد البلاد الكامل تقريبًا على واردات الطاقة، هذا الإدراك هو ما يُفسّر النشاط الكبير للدبلوماسيّة التركيّة في الوقت الحالي وتصفير مشاكلها وإعادة العلاقات مع مصر لخلق أرضية مشتركة تُعجل من ترسيم الحدود البحريّة بينهما في شرق المتوسط، فتركيا الأقرب لمصر من اليونان لدورها الإقليمي الفعال في ملفات كثيرة وهذا قد يخفف الضغط عن مصر قليلا في كثير من الاشتباكات. 

أزعجت الزيارة بعض المعارضين السياسيين في إسطنبول كونها تتضارب مع مصالحهم وتُقيّد من حرية نشاطهم السياسي الذي لم يُجد نفعا على مدار عشر سنوات غير المظالم والفساد والسمعة السيئة، وأذكر هنا موقفا لأحد الرؤوس السياسية الضخمة الذي طلب عبر وسيط مصري أن يجتمع مع أحد قيادات حزب العدالة والتنمية في بدايات التقارب مع مصر، ليوضح له حجم المأساة التي يعيشها المصريون فقال له: لماذا التقارب مع النظام المصري؟ إن مصلحتكم مع المعارضة، قد فرّ من مصر حوالي 70 أسرة إلى إسطنبول قبل هذا اللقاء، وأنا من يتكفل بهم جميعا، كيف تتقاربون وما زال نزيف المظالم ينزف؟ 

فَهم قيادي العدالة والتنمية ما يرمي إليه هذا السياسي المصري فرد عليه بقوله: نحن لن نتصالح مع مصر فقط بل مع السعودية والإمارات، ونبدأ صفحة جديدة مع الجميع، يعني بالبلدي كده: بلاش كذب وتلفيق ومتاجرة نحن نعرف ما نقوم به جيدا!! وهنا بُهت صاحبنا ووقف ينظر عن يمينه ينفث دخان سيجارته، زعم أنه يستقبل الفارين من مصر ويتولى النفقة عليهم حسب قوله وهو في الحقيقة يبخس حق من يعمل معه ويلاحق من يُخالفه ويُمعن في إذلاله. 

ربما هذا الموقف وحده يكفي لفهم عقلية بعض الرؤوس السياسية المعارضة في تركيا وأن استمرار الأزمة لا تعدو كونها سبوبة تدر عليهم الملايين من الدولارات على حساب مصالح دولتين بحجم مصر وتركيا، في النهاية استدار هذا السياسي للخلف وتماهى مع الواقع الجديد وأصدر البيانات التي تدعم الزيارة وتُثمنها، تلك هي اللعبة السياسية، أينما وُجِدت المصلحة فثم التطبيل والتحول ولا مانع من التسوّل أيضا، ولتذهب مصالح الأوطان إلى حيث تذهب.