علي الصاوي يكتب: زيارة أردوغان لمصر.. «جيم أوفر»

ذات مصر

الدول المركزية مهما بلغ بها الخلاف تبقى روح المصالح بينها أقوى وأشد عزما، من التناحر الشخصي والتصريحات الإعلامية والنكايات السياسية، فعالم السياسة لا يُجيد غير لغة المصالح، ولا يعرف لغة الكلمات الأخيرة، والجماعات السياسية التي تُعول على مصالحها في سباق مصالح الدول تخسر بالقاضية ولا تجد نفسها في نهائي البطولة.

عَزم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارة مصر في منتصف هذا الشهر، بعد قطيعة دامت أكثر من عشر سنوات وفي سياق إقليمي أكثر توترا وتحديا، وبالتزامن مع تشكل إرهاصات تغيير قادم على صعيد منطقتنا العربية بشكل خاص والعالم بشكل عام، ولا يقوى النفوذ السياسي ويتسع التمدد الجغرافي إلا بتحالفات قوية تتناغم مصالحها وإن تضادت المواقف، وهذا ما تطمح إليه القاهرة وأنقرة.

زيارة الرئيس أردوغان لمصر ولقاؤه بالرئيس السيسي لن تكون مجرد زيارة دبلوماسية باهتة، فالرجل معروف عنه عدم تضييع الوقت واغتنام الفرص، والعودة بحلول ناجزة لملفات شائكة تعرقل مصالح الدولة التركية، يأتي في المقام الأول ترسيم الحدود البحرية مع مصر في شرق المتوسط لمعالجة التشوهات الجيوسياسة التي تعاني منها تركيا منذ سقوط الدولة العثمانية وحصرها في حدود بحرية متواضعة، وهذا الملف هو أولوية تركية ولبنة أولى في بناء وطنها الأزرق، ومن الأسباب الرئيسية في تكبيل نفوذ تركيا سياسياً، كما أن مصر بدأت تأخذ خطوة نحو بناء سياسة خارجية متوازنة فيما يخص شرق المتوسط لا تريد أن تخسر معسكر قبرص واليونان ولا تريد قطع أمل تركيا في ترسيم الحدود، ربما تلك رغبة مصرية في ظل سياق إقليمي متوتر قوة التأثير والفاعلية فيه تتوقف على من يملك أوراق ضغط أكثر وتحالفات سياسية تتماهى مع مصالحه.

تمتلك مصر وتركيا مؤهلات كبيرة وقوية في لعب دور أكبر في ملفات شائكة لم تُستخدم حتى الآن، تأتي القضية الفلسطينية في مقدمة هذه الملفات، وقد ينتج عن اللقاء مخرجات إيجابية لما يحدث في غزة، وربما تنسيق سياسي وأمني يمنع التوسع الوحشي للكيان الصهيوني، فرغم قوة تركيا وفاعليتها فإن مساندة مصر لها في لعب دور رجل الإطفاء سيزيد من الضغط والتأثير، أو على الأقل تخفيف معاناة أهلنا في غزة، والعكس أيضا بالنسبة لمصر، ربما المعطيات الحالية تقول عكس ذلك لكن كل شيء في السياسة وارد لاسيما مع تضارب المصالح بين قوى النفوذ في المنطقة.

وعن المشهد المصري المعارض في تركيا فلم يعد أولوية قصوى بالنسبة للدولتين، ولن يأخذ مساحة كبيرة في النقاش، خاصةً بعد تغيّر موقف السياسة التركية فيما يخص الربيع العربي الذي بات طي الماضي، فقد حصدت خيره وانتهى الأمر، والآن هناك سياسة جديدة شعارها "تركيا وفقط" وهذا ما فهمه كثير ممن يقيمون في إسطنبول وينشطون سياسيا وإعلاميا، أن السياق الإقليمي تَغيّر، وإن بقيت بعض الملفات مفتوحة كما هي دون حل، فالفاعل السياسي لا يقف عند استراتيجية واحدة، بل يُعدل ويُبدل كلما طرأت متغيرات أو تعرّضت مصالحه للخطر أو انكمش نفوذه وتراجع دوليا وإقليميا، وقد سيطرت تركيا على ملفات المعارضات العربية، واتضحت أبعادها المستقبلية ووضعت لها حدودا، لذلك يلتزم الجميع الصمت أو الحديث على استحياء بالإشارة لا بالعبارة.

بزيارة الرئيس أردوغان لمصر، تكتمل بذلك الحلقة الأخيرة في سلسلة عودة العلاقات المصرية التركية، وطىّ صفحة الماضي بكل أبطالها وكومبارساتها وقصصها، فالكيانات السياسية وإن برقت ولمعت في مواسم التوتر بين الدول فمصيرها في النهاية أن يجرفها فيضان المصالح، فإما أن تموت وتختفي أو ينجو بعضها وتجلس على البر تلتقط أنفاسها تحت حرارة الشمس أو تعود إلى المشهد تحت شعار "سيبونا ناكل عيش". كما هي الحال الآن.