علي الصاوي يكتب: طز هي الكسبان

ذات مصر

ثباتك على النظرية والعمل بها ليست علامة على أنك ستحصد نتائج إيجابية تجلب لك الراحة والاستقرار، بل قد تكون نظريتك فاضلة ونبيلة لكن الواقع يرفضها ويهجم عليك أهله وعلى نظريتك لهدمها وملاحقتك إلى أن تعود وتتخلى عنها وإلا فقدت مكانتك وامتيازاتك، ولسان حالهم يقول" لنخرجنك من أرضنا أو لتعودن في مِلتنا" وقصص الأولين مليئة بالعِبر لمن تجرأ وخرج عن صفّ القطيع وحمل ما لا يقدرون على حمله، وتفوّه بما لا يقدرون عن البوح به، فمنهم من يصمد ويكافح إلى أن تعلو فكرته ومنهم من يُقتل في سبيلها، ومنهم من يتراجع وتعود حياته سيرتها الأولى مرجوّاً بين أهله." كما قال الله في قصة النبي صالح: "قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا".!

فلسفة طز كانت أسلوب حياة محجوب عبد الدايم في رواية القاهرة الجديدة للأديب العالمي نجيب محفوظ، وهى أنجح أنواع الفلسفات في كثير من الأوساط في واقعنا المعاصر، فلسفة مُريحة تجلب على صاحبها الرضا ممن حوله وتغدق عليه العطايا والهبات، فقط أن تمرر ما يُطلب منك وأن تطاطي لكل ريح عاتية لتمر بسلام، أن تخلع ثوب الكرامة على باب من بيدهم رزقك وترقيتك لتحافظ على وضعك المادي والاجتماعي وتبعد عنك وجع الدماغ، فلسفة محجوب عبد الدايم ناجحة من منظور المعايير السائدة ومربحة بمعايير المؤهلات المطلوبة للشخصيات المنخرطة في عالم السياسة والإعلام وغيرهما من المجالات الأخرى.

تلك الفلسفة جعلت الصحفي أحمد بدير في الرواية الذي كان يتمنى الوصول إلى مكانة كبيرة لتفانيه مع المعارضة ضد الملك فاروق وحكومة صدقي يُقرّ في النهاية بأن طز هي الكسبان، وقال للثوري الاشتراكي على طه الذي عاش مُلَاحقا ومات مُفلسا بأن محجوب كان لديه كل  الحق حين قال: إن طز هي الكسبان، وحين رآهم يقرأون كتابا يدعو إلى التنوير قال لهم: فوقوا من الوهم" انتوا ما تقدروش حتى تنوروا أوضة" فهم أحمد بدير بيت القصيد في لعبة السطوة والوصول، وصل محجوب الفقير إلى منصب مدير مكتب وزير التعليم، بينما على طه عاش في بدروم متواضع وحوله آلة طباعة ومنشورات اشتراكية وكل فترة يعتقلوه يشبعوه ضربا ثم يعود إلى البدروم كالجثة الهامدة على سرير صغير ومتهالك. 

تقوم فلسفة محجوب عبد الدايم على اللامبالاة وعدم الاكتراث لكل ما يحدث حوله، تسافل حتى تصل، تراجع لتتقدم، استبدل ثوب الفضيلة برائحته المنفّرة، بثوب الرذيلة بمظهره الأنيق ورائحته الجذابة، ليكن لونك في الحوادث ألوان ودينك في المنافع أديان، لا تعبأ بما سيقولونه فذاكرة العوام ثلاثة أيام، الجميع أمام سطوة النفوذ والمال ينخ مثل الجمل الأنُف، إذا قِيد انقاد وإذا أُنيخ على صخرة استناخ، فحين تنتشر الروائح العفنة يفقد الناس القدرة على التمييز وينظرون إلى المسك بقرف واشمئزاز.

فلسفة طز عملية وناجحة من ناحية الأرقام المادية لكنها خسارة لكل القيم الأخلاقية والإنسانية، يرتقى صاحبها إلى ربوة ذات قرار ومعين، لكنه في الحقيقة ساقط في وحل من الطين، الحياة من دونها جحيم يُطاق وبها نعيم لا يُطاق، فلسفة محجوب عبد الدايم أنجح فلسفة تعيش بها وسط عالم بات شعاره: يا توافق يا تنافق يا تغادر البلاد، أو استعد لحرب ضروس لا تقدر على تحملها ولن تحصد منها غير مصمصة الشفايف والطبطبة على الكتف والتخلي ممن حولك.

وأذكر ما قاله لي يومًا أحد من يراهم الناس في مكانة كبيرة وحكمة بالغة، كنا نتحدث حول هذا الأمر فقال: المركوب هو اللي عايش دلوقتي يا أستاذ؛ عدى علشان تعيش"!! وهنا اكتشفت سر رفاهيته ومنهج حياته وفلسفة تعامله مع محيطه، محجوب عبد الدايم وفلسفة طز هي المعادل لشخصية محفوظ عجب في دموع صاحبة الجلالة، نفس الفلسفة ونفس الشخصية ربما الفرق بينهما أن محجوبا كان انتهازيا بائسا ومحفوظ عجب كان وصوليا خبيثا، لكن الاثنان خرجا من بكابورت طز هي الكسبان، وليتهما كسبا في النهاية.