إبداعات ذات مصر

العَقْرُبَنُّ.. قصة قصيرة.. السيد حمزة

السيد حمزة
السيد حمزة

                                              "عدُّودة.. على المنبطحين فى الأنحاء؟!

                                              هؤلاء المبعثرون شذر مذر الأرجاء؟!"                               تركتنى أمى هنا، أضرب الغيم بذيلى، يبرق.. يرْعُد، يخطف الأبصار، يصمُّ الأذان، يهطل المطر، يُميت كل شىء، احتجز الحلال البدوى، تُنْحَر البكرة، يقدّمها لى الرُّعاة فى ذلّة ؛ ألتهمها فى شهوة، وأضاجع حلالهم فى عزّة، ينصرفون منكسرين، ينتظرون الوهم، مجىء المزن، ولا يأتى سوى ذيل "العقربن".

إلتوت الأعناق فوق الأجساد المضَّجعة صوب الشَّمال ! ظهر وجه الغيم، عبست وجوه القوم، ارتجفت القلوب مرعوبة من قدوم الضَّيم، آهات العيون سالت على الخدود، النسوة شققن الجيوب، مِلْن بالقدود، عفَّرن الوجوه بتراب الخوف المشتعل فى النفوس، لم تحمل الأيادى الحبوب أو الفئوس. اعتدل القوم فى جلستهم، كلاعبى اليوجا تماثيل كانت قعدتهم، ارتعدت أجسادهم، ارتعشت نظراتهم المصوَّبة نحو السَّماء. ذو النُّهى فيهم ما نهى؟! الماء. ظلّلهم "العقربن"، بشسر لُؤْم هذا الصوت الذى رنَّ !!! نذير شؤم هذا الضوء الذى سطع. هبُّوا مهرولين، بعضهم وقع، مضغهم الهلع، بثقهم مقعدهم، ما ترك أحدهم مُضّجعْ، عبث بهم الرَّعد عبثْ، لاكهم البرق بذعرهم ما شبع، تلعثمت الكلمات فى الأفواه:

_ هَمُّ بشع.. هَمُّ بشع.. شنَّ" العقربن.. العقربن" شنَّ.

صعد كالمجذوب فوق أحد التُّلول، يستطلع السُّهول، والرَّاعيات المتشحات بالسواد، والشياة والعنزات، والغلمان والحمول، وذو الذيل المعقَّل والذنب، والذراعان المعقوفان للأمام مقصلتا الأدب. المجذوب فوق التل نَدَبَ.

قال الشيخ:

_ يا رعيان أعدُّوا القُربان، حان وقت التَّقرُّب حان.

من مغارته خرج "العُقْربان". نحروا الذبيحة البكرة الطريحة، على الأرض السَّطيحة، صفُّوا دمها فى صفيحة، ووضعوا من اللسان شريحة. وأتوا بقائمين من خشب، ولو أراد.. لفعلوا بمثلهما من ذهب، طوَّقوا الذَّبيحة، مدُّواالقائميْن من تحتها، خلف الساقين الأماميّتين والرجلين الخلفيّتين.

حملوها على الأكتاف، تقدّمهم الشيخ حاملاً الصَّفيحة، ولم ينس من اللسان الشريحة، تقاطر الدم من المحمولة، طعاماً وخمراً "للعقاربين" الصغيرة. كاد يدوس خضراء لعينة، دفعه أحدهم بخشونة، تأوَّه من كتفه المألومة. قال له الشيخ:

_ يا ولدى إنهم أبناء صاحب الوليمة، الطريق بهم مأهولة. احذر.. وانظر أين تضع قدمك؟ ضعها فى أرض معلومة.

الجبل يعلوا وفوَّهة المغارة تقترب، قلبه بين أضلعه اضطرب، قال الشيخ:

_ أُرْقب وانتظر بعيداً ما يحدث فى حذر.

وقف القوم أمام باب الصومعة، حط الحاملون التى كفَّت عن الرغرغه، وتفرَّقوا مبتعدين فى زوبعة. خرج ما كان أحدٌ معه، ذراعاه

يصبَّان فى فمه، وأكثر من عين فى وجهه لامعة. فى التو ذرف أدْمُعه !! نشج.. وشهق شهقة صاخبة، بين شفتيه برزت ابتسامة شاحبة. 

رفع ذيله فوق ظهره على مقربة، بين ذراعيه لاح وجه "العقربة"، لطم الشيخ كوَّره، مدَّ لسانه لعق الخمر من الصفيحة، وتناول الشريحة. 

الشيخ كُرة مكانه، سحبه بذراعه، لحس شيْبته، صرخ فى وجهه، سقطت شعيرات ذقنه:

_ أين هو؟

_ مـــن؟

 _ هوغريبكم.. أشمُّ رائحته.. أهواه.. أستريح لهواه.

_ مــن؟

_ آتنى به.. معلّم صبيانكم.

هبط قلبه على سلّم الخوف بداخله، بات بقدمه. ناداه الشيخ ابنى، هلم إلىَّ.. عفوا إلى مولاك "العقربن". تقدَّم.. صَعَدَت على سلّم خوفه بقايا 

شجاعة، تهدّدهم المجاعة. جذبه بخطّاف ذيله، بين ذراعيه معلَّقاً كان، وهو يتراجع للخلف مختفياً داخل المغارة، وضعه بجوار الجدار، النور أطِلَّ من الفوَّهة انتشر فى المكان ضوء خافتٌ، ظلت نظراته معلقة بذيله، ملأه الرٌّعب، وفاضت على جسده رعشة احتوته.

واقفاً كان وهياكلاً، ترتدى حُللا كاكية، جنوداً كانوا. -حفيدكم هو أيها الجنود-، نظر إليه، أزاح ضخرة، فتح باباً، خرجت الرَّاعيات، بقع داكنات الحمرة بين أفخاذهن، تلطّخ الأوشحة السوداء، الشياة عاريات من صوفهن، والعنزات قروداً صرن، لم يرى الغلمان والحمول، التهمهم الأكول !!! هلّل الشيخ والرُّعيان، صاح الشيخ:

_ أبشروا يا رعيان، عادت راعياتكم، لن ينقطع السلسال، لن تموت العيال.

التفت "العُقربان".. تتلاحق أنفاسه، خرجت من فمه رصاصة:

_ أنت.

_ نَ..نِ..تُ.. مــَ..عَ.. منع.. نعم.

_ هو.

_ هــِ ء..هــُ ء.. هو.. مــَء.. مــِء.. مـــَ.. نْ.

_ أنت مهيب الطلة، هو صاحب العزة، أنت.

هزَّ رأسه.

_ أنت أرادت أمى بالتبنى تبنّيك، مع الفرق، أنا "عقربن"، وأختى أفعى، هو ولد.. كانت تقول.تنهّد ناراً.

_ أَ.. نِــ.. ا.. مــَ.. نــْ.. هـــُ.. وَ..مَااا.. لــِ..ى.. وأُأُأُ.. مـــَّ.. ك.

حروف مشوية.

_ كنت معها أمى بالتبنّى وأختاى، نركب سيارة جيب، فوق صدرها النَّاهد مدفعها الرَّشّاش. جمعت كل الجنود الأسرى فى بواكر "حزيران" السَّعيد، لقد انتصر هو انتصاراً قويّاً رغم الهزيمة العظيمة لأتباعه، أمرتهم بالاصطفاف، اصطفوا بسرعة صاروخ، تفقَّدتهم بالتّتابع، سألتهم القذيفة تلو القذيفة:

_  هل تحبّه؟

فيجيب الجندى أو الضابط.

_ لا.

تلطمه على وجهه، وتركله بقدمها فى إليته، وتزيحه إلى الخلف عن طريقها، وتسأل الذى يليه:

_ هل تحبّه؟

يجيب الجندى أو الضابط:

_ نعم أحبّه  

تمطره بنظرات اعجاب، تسيل منها نظرات كبرياء واشمئزاز وازدراء، وتبصق وتتركه مكانه، وتسأل الذى يليه:

_ هل تحبَّه؟

يجيب الجندى أو الضابط:

_ لا.

تركله وتزيحه، وتسأل الذى يليه، حتى انتهت منهم جميعاً. أمرت من قال أحبّه أن يركب السيارة، وقالت:

_ مغفّلون.. إننى أبتغى مثله، يحقق أحلامى، ويحرز أهدافى.

وغمزت له بطرف عينها، وانطلقت بالسيارة "الجيب" وأختاها، ومن قالوا نعم، وتركته وهؤلاء المصطفّين بجواره رغم غروبهم، يتمنّون الغروب، حملتهم إلى هنا، كانت الأرواح تعبث بأجسادهم ما زالت سأَلْتَهم:

_ أين هو..؟؟؟ أهواه.. يذبحنى هواه. أخرج أحدهم صورة له، ارتعدّتْ من طلّته، خشعتْ.. وصمتتْ،ثم قالت هادئة:

- لم أرتعد من طلعتك. أخرجوا كل ما معهم، ساعات.. خواتم ذهبية.. حافظات النقود.. وقالوا فى رجاء:

_ نودَّ المسير باتجاه الغرب.

صرختْ:

_ لا تقلقوا.. سوف تغربون. لقد أشاروا على أمى ذات مرة " الدراهم و أشاحوا، و الدولارات " قالت عاجبة مفتونة به:

_ ولد.. إن كان الله يأكل دراهم ودولارات، يأكل هو الدراهم والدولارات، أتمنّاه.. وألف آه.. أصفّيه..وأصفّيهم.. لن يولد ثانية فيهم.

 النساء. همسَ كثيرات، وذكور أمى فحول، وسبقنى الشيخ للرعيان:

_ لن ينقطع السلسال، ولن تموت العيال.

رفع ذراعيه وزعق:

_ هذا يصب فى خليج، وهذا يصب فى بحر.

ضحك بملء فيه.

_ يصبَّان فى فمى.

، لطمه وتقدَّم.. لعق السائل على ساقه من دمه.. وأردف:

_ الدم واحد.. دمه أخف من دمك، الآن اتضح الأمر، لو قطّعته إرباً، ما شممت منه ما بدر منك، لا رجاء - ثائراً كان – اذهب والحق بالرُّعيان، هم الآن يمضغون سيرتك، لارجاء - ساخراً هذه المرة –  نظر إلى الجنود الهياكل... 

                      المقبرة الجماعية... 

                               إليه ...                                      تعثّر.

*- العقربن: مفردة بدوية تعبّرعن صاعقة البرق فى الفضاء وصوت الرعد.