كيلو بصل.. قصة قصيرة.. شوقي عقل

ذات مصر

أخرج ورقة بيضاء من الدرج وكتب في أعلى الصفحة (بسم الله الرحمن الرحيم) ثم كتب أسفل البسملة وبحروف كبيرة (رسالة انتحار)

بدأ من أول السطر:

 (خطرت الفكرة على ذهني وأنا مستلق على الفراش، ماذا سيحدث إن أنا انتحرت؟ إذا كانت البشرية...)

من خارج الغرفة سمع صوت زوجته:

-  يا حسين...

(..إذا كانت البشرية كلها فانية، والموت هو مصير كل حي، فلماذا نعتبر الانتحار جريمة؟ أليس الانتحار صورة من صور الـ..)

-  يا حسين!

(.. موت، لكنه في اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن..)

-  يا حسين!!

صاح بصوت غاضب:

 -  فيه أيه؟؟

-  أنت ما جبتش الزيت اللي قلت لك عليه؟ العيال قربوا يرجعوا من المدارس، أطبخ أزاي أنا؟

-  ممكن تستني علي نص ساعة وحاجيبلك كل اللي نفسك فيه، حتستريحي خالص!

-  يا خويا بلاش نفخه كدابة، أنزل دلوقت هات قزازة زيت وما تنساش تاخد النوتة معاك ، لحسن سعيد يرجعك.

قام وهو ينفخ، وضع الصندل في قدمه وارتدى الجاكت فوق البيجاما، وخرج إلى الصالة.

 بحث عن النوتة فوق الثلاجة. صاح:

-  النوتة فين؟

-  جنب التلفزيون مطرح ما حطيتها، ما حدش بيستخدمها غيرك.

نزل وهو ينفخ. في المحل انتظر حتى خفت الزحمة، مد يده بالنوتة للبقال قائلا:

-  قزازة زيت درة وحياتك يا سعيد.

رد البقال:

-  ماكانشي يتعز يا أستاذ حسين، النوتة مليانة، والحساب عدى!

قال برجاء:

-  ما هو زي كل شهر يا سعيد، وأول الشهر قرب!

-  الحساب عدى الخمسميت جنيه، والفلوس لازمانه علشان نجيب بضاعة، لو أدينا شكك مفتوح للزباين المحل حيفضى.

-  خلاص يا سعيد، المرة دي وخلاص.

نظر البقال إلى الرجل الواقف أمامه، ثم هز رأسه وذهب وآتى بزجاجة زيت قلي.

قال وهو يأخذ النوتة منه ليسجل ثمن الزجاجة:

-   أهيه، أعمل حسابك دي آخر مره!

-  متشكر يا سعيد، ربنا ما يحرمنا منك، بس ياريت تخليها دره لو ما فيهاش إزعاج.

تطلع إليه البقال ثم قال:

  • ده الموجود.

أخذ الزجاجة وعاد إلى المنزل. وجد أن البقال سجل ثمن زجاجة زيت القلي بنفس ثمن زجاجة زيت الذرة، فكر أنه لو عاد إليه فسيأخذ منه الزجاجة. وضعها على رخامة المطبخ وذهب مسرعا إلى غرفته، وأغلق الباب. عاد إلى الرسالة:

(..  لكن قبل اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن ينهي حياته، عليه أن يتأمل في حكمة الوجود، وقيمة الموت والحياة، فالحياة لا يمكن أن تستمر بغير الموت، فلنتخيل لو أن البشر كانوا خالدين ويتكاثرون، فكيف سيتسع لهم الكون! الموت هنا فعل إيجابي، والانتحار ما هو إلا حالة تعجيل بموت محتم، وربما هو قدر مكتوب وقرار الفرد فيه هو مجرد تنفيذ للإرادة الآلهـ...)

آتاه صوتها وهي تناديه بنفاد صبر:

- يا حسين!

- ....

- يا حسين، الزيت بتاع قلي مش طبيخ!

قرر أن لا يرد! الزيت بالشكك وبالعافية، السعر غالي والبقال يرده ويهينه قدام الناس.

 عاد إلى الورقة (مجرد تنفيذ للإرادة الإلهية، الإنسان مجرد أداة للتنفيذ، الانتحار بالنسبة له هو انتقال لمستوى أعلى من مستويات الحياة الفانية العقيمة الـ...)

-  يا حسين!

- .......

-  يا حسين!

زعق بأعلى صوته:

-  عايزه أيه من الزفت حسين!

-  عاوزة بصل..

-  هيا شروة البصل خلصت!

-  ايوه.

-  انا جايب لك اكتر من عشرين كيلو!

-  الصيف اللي فات، من خمس شهور، نشفتهم ونازلين فيهم طبيخ، هو انت فاكر حيقعدوا العمر؟

-  ما انت عارفة إن البقال معندوش بصل!

-  عارفة، فيه حد يجيب بصل من البقال؟! خد عشرة جنيه وهات لنا كام كيلو من الخضري، بس يكونوا ناشفين...

-  ما قلتيش ليه من الأول؟

-  معلهش، حقك عليا، العيال زمانهم جايين.

-  والله الواحد بيفكر يروح ما يرجعشي، يسيبها لكم.

-  طيب، بس ما تنساش تقفل الباب وراك، المرة اللي فاتت سبته مفتوح والدنيا مش آمان.

قال بصوت غاضب:

-  الواحد واخد أجازة علشان يقعد شوية مع نفسه، بعيد عن الدوشة، وانت عمالة طلبات...

-  معلهش، آخر حاجة.

دمدم: طلباتها لا تنتهي، والرسالة مش حتخلص بالطريقة دي.

أخذ الشنطة والنقود والرسالة وقلم كي يسجل اية فكرة قد تخطر في باله ليضيفها إليها.

نزل ثانية بعد أن أغلق الباب خلفه.

محل الخضري يبعد ثلاثة شوارع عن شارعه، على الطريق العام. قرر حين يعود أن يغلق على نفسه باب الغرفة وأن لا يستجيب لأي طلب من طلباتها، حتى ينتهي من رسالته! 

كانت الفكرة تدور في رأسه (لكن كيف سينفذ قراره بالانتحار؟ لا بد من أن يكون بعيد عن البيت، فالعيال غلابة، والبهدلة حتكون جامدة، بوليس وجيران ورعب للعيال...! الحل الأسهل كوبري قصر النيل! قفزة سريعة من فوق السور الحديد، وغطسة وينتهي الأمر! .... لكنها موتة عيالي ومتكررة! شغل مراهقين مش مكانته!

 البرج؟؟ لكنه يخاف من المباني العالية!

 المترو؟ أعوذ بالله، منظر صعب!

ما فيش غير الاسبرين! في جنينة الازبكية بدل البيت، يذوب الكمية الكافية في قزازة كبيرة، ويشربها على دكة وينام وما حدش حياخد باله لغاية ما يلاقوه! يعملها في قلب الدوشة والزحمة!

 الدنيا حتتقلب والناس كلها حتعرف، والرسالة حتتنشر في كل الجرايد وبرامج التلفزيون: 

انتحار مواطن زهقان! مواطن ينهي حياته في قلب القاهرة! موظف في الحكومة ينتحر احتجاجا على الروتين! الجرايد هناك والحكمدارية والبوليس والناس والعالم كله!)

كان قد وصل إلى محل الخضري.

مد يده بالعشرة جنيهات إلى الرجل:

-  والنبي ياحاج تلاتة كيلو بصل، بس يكون قديم ومش مزرع.

نظر الرجل إلى الورقة وقال:

- يا فتاح يا عليم، تلاتة كيلو؟ هات عليهم ورقة بمية كمان.

- انا عاوز تلاتة كيلو بصل!

- ايوه عارف، ورقة بمية كمان!

نظر غاضبا إلى الرجل وصاح:

- ورقة بميت أيه! انت شكلك اتجننت!

كلمة من هنا وأخرى من هناك، واندفع بعدها الخضري الزهقان نحو الرجل وامسك بخناقة وتضاربا، دفع الخضري الرجل الغاضب في صدره دفعة قوية إلى الشارع خارج الرصيف. صدمت سيارة مسرعة المسكين والقت به بعيدا. التف حوله الناس وأنحنى عليه أحدهم ثم صاح قائلا:

 - لا حول الله، الراجل خلص...

كان ملقي على الاسفلت، الدهشة تكسو وجهه ويده ممسكة بالرسالة التي لم تكتمل.