إبداعات ذات مصر

بودرة بيضاء.. قصة قصيرة.. شوقي عقل

رأيناها للمرة الأولى حين وصلتْ زفة صغيرة إلى باب العمارة. خرج السكان إلى الشرفات ليروا العروسة الجديدة. توقفتْ الحركة في الشارع، شاركتْ السيارات العابرة الزفة بإطلاق أبواقها، ورقص أقارب العريس أمام باب العمارة. كانت الفتاة الشابة الجميلة تتطلع حولها بخجل. 

من سيارة أخرى نزلتْ أم العروس بجلبابٍ فلاحي أسود لتمسكَ بذيل الثوب الأبيض الطويل وترفعه بعيدًا عن التراب. عبَرتْ العروس الطريق بسرعة وعريسها خلفها، رجلٌ ممتلئٌ متوسط العمر، يرتدي بذلةً رمادية.

كنّا نراها بعدها حين كانت تُطلُّ من الشرفة أو وهي ذاهبة للشراء من السوق القريب أو على السلم. تتبادل مع زوجتي الابتسام وكلمات قليلة.

 قالت زوجتي في أحد المرات: 

 ـ شكلها مش مبسوط.

اختفت لأسابيع، حين عادتْ للخروج، كان لون وجهها الخمري المُشرب بحُمرةٍ خفيفةٍ قد اختفى تحت قناعٍ أبيض ناصعٍ من البودرة والكريمات. أصبحتْ ترد تحيتنا بخفوت، تهربُ بعينيها من نظراتنا المتسائلة. بعد كل مرة تلتقيها كانت حبيبتي الطيبة تصاب بالحزن.

 تصمتْ قليلاً وهي ساهمة ثم تقول:

  ـ فيه سر.

  ـ يمكن حد قال لها إن البياض أحلى.

قالت:

  ـ البنت مكسورة.

غالبية من كان يسكن في عمارتنا متزوجين حديثًا، أسماها اهل المنطقة عمارة "العرايس".

 كنّا نفطر في الشرفة المُطلّة على الطريق، نتأمل النيل من بعيد والجزيرة الخضراء التي تتوسطه. كانت النساء القادمات في الصباح المبكر من بيوتهن المتناثرة في الحقول القريبة في طريقهن إلى السوق، يبتسمن كلّما مررن بالعمارة. يتطلعن إلينا ويتهامسن وتنطلق ضحكاتهن.

 في الصباح المبكر لأحد الأيام، وكنا نستمتع بالهدوء المحيط، سمعْنا صوت ضجة من شقة العروسة صاحبة البودرة، تكسير وصوت الزوج الغليظ يعلو. لم نسمع صوتها.

 

مرّ حوالي شهرين لم نرَ خلالهما الشابة الصغيرة الخجولة. في أمسية صيفيّة جميلة كنت أنا وزوجتي عائدين من زيارة لأسرتها، نحمل معنا عشاءنا الذي أعدّته والدتها، إناء مملوء بالملوخية أعطته لي وهي تقول (ملوخية من اللي قلبك يحبها) بعد أن أبديت إعجابي بطبخها! كنت أجاهد في الطريق كي لا تندلق الملوخية. ضحكتْ زوجتي وهي ترى حيرتي ووجهي المُحمر وأنا أحمل الإناء الساخن صامتًا. كنّا نصعد لمنزلنا الصغير، أنا أنفخ وهي تضحك،

 رأينا أمام بيت جارنا زوج الفتاة؛ سيدةً عجوزًا تجلس على الدرج أمام بيت جارنا زوج الفتاة، تمسح عينيها بطرف طرحتها السوداء. 

سألتْها زوجتي إن كانت تريد شيئًا؟ دار حديثٌ خافتٌ بينهما. 

تركتهما وصعدتُ بحِملي إلى شقتنا. جاءت بعد قليل والدموع في عينيها!

 قالت إنها أم الفتاة الخجولة، وإنها تنتظر ابنتها لأنها في المستشفى بعد أن ضربها زوجها ضربًا مُبرِّحًا وأسقطَ حَملها!!

 قالتْ الأم العجوز لزوجتي (إنه يضربها منذ ليلتهما الأولى، يضربها دائمًا لأي سببٍ وأحيانا بدون سبب! إنها خائفةٌ أن تموت بين يديه! إنهم غلابه لا يقدرون عليه)

 كانت زوجتي حزينةً وحائرةً. 

فجأة نظرتْ إليَّ غاضبةً:

 ـ أمها قالت إنها بتحط بودرة كتير عشان تغطي الضرب.

قمتُ وخرجتُ إلى الشرفة لأدخن. 

كانت المنطقة قد بدأت تزدحم. عمارة العرسان التي كانت تقف على حدود الأرض المزروعة، أصبحت محاصرة بعمارات جديدة. 

حين انتقلت إلى موقع عمل جديد بعيد؛ قرَّرنا الانتقال إلى سكنٍ آخر قريب من العمل الجديد.

مرّتْ سنة وربما أكثر حين وجدتُ نفسي ذات يوم قريبًا من منزلي القديم، مررْتُ به لأرى شرفتنا الجميلة، المكان الذي شهد أيامنا الأولى.

 كانت المباني الجديدة قد أخفتْ خلفها كل شيء، النيل والحقول والجزيرة الجميلة. شاهدتْ أحد الجيران القدامى، نزلت من سيارتي لأحييه. سار بنا الحديث والسؤال عن الأحوال حتى جاءت سيرة الفتاة صاحبة البودرة، قال لي جاري:

 ـ إنت ما عرفتش؟

 ـ إيه؟ 

 ـ البنت ماتت، اتخبطتْ في دماغها. جوزها قال إنها وقعت على رُخامة المطبخ. 

عدتُ إلى منزلي في الطرف الآخر من المدينة. سألتني زوجتي عمَّا بي. لم أقلْ لها شيئًا. لم أخبرها أني مررْتُ بمنزلنا القديم، عن شرفتنا التي لم تعدْ تطلُّ على شيء، عن الفتاة المسكينة.

 بدت ليْ أضواء المدينة البعيدة غبية وأنانية، تغطي بمصابيحها الفاقعة وضجتها التي تصم الآذان والدوران الذي لا يكُفْ، آلامٌ كثيرةٌ وأحزانٌ قاسيةٌ.