علي عزت بيجوفيتش.. المفكر الإسلامي وثائر البلقان

ذات مصر

علي عزت بيجوفيتش سياسي ومفكر إسلامي.. طبع اسمه في ذاكرة الكثيرين ممن عاصروا حرب البوسة التي اندلعت في مارس 1992، واستمرت حتى نوفمبر 1995.

تلك الحرب الوحشية الإجرامية التي شنها صرب البوسنة بدعم من صربيا ومونتنغرو، وكروات البوسنة بدعم من كرواتيا- على مسلمي البوسنة والهرسك، وأسفرت عن مقتل أكثر من  200 ألف مسلم بوسنوي، بعد ارتكاب 26 مذبحة ضد شعب البوسنة والهرسك المسلم، أشهرها، مذبحة سربيرينيتسا.. واغتصاب أكثر من 60 ألف سيدة وفتاة مسلمة، بالإضافة إلى تشريد أكثر من مليوني مسلم وتدمير 650 مسجدا.

بعد أن وضعت الحرب أوزارها تولى علي عزت بيجو فيتش رئاسة جمهورية البوسنة والهرسك في الفترة من 5 أكتوبر 1996 حتى14 أكتوبر 2000، وكان حزب العمل الديمقراطي  الذي يتزعمه بيجوفيتش قد فاز بالنصيب الأكبر من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية التي جرت في عام 1990، وأُعلن بيجوفيتش رئيسا للجمهورية؛ لكن اندلاع الحرب الأهلية حال دون تسلم الرجل مهام عمله، بعد تنصيبه في 19 نوفمبر عام 1990.

نُبذة عن البلقان 

InterRail Global Pass countries

البلقان، هي شبه جزيرة تحاط بستة بحار هي: البحر الأيوني والبحر الأدرياتيكي من الجنوب الغربي، ومن الجنوب البحر المتوسط، ومن الجنوب الشرقي بحر إيجه وبحر مرمرة، كما تحاط من الشرق بالبحر الأسود.. في قلب القارة الأوربية.

وتتكون منطقة البلقان من عدة بلدان هي: كرواتيا، سلوفانيا، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود، ألبانيا، كوسوفو، صربيا، ومقدونيا، واليونان، وبلغاريا، ورومانيا، وتركيا.. ومن المصطلحات المعروفة في عالم السياسة مصطلح "البلقنة" ويعني تفتت وتجزئة دولة تضم إثنيات مختلفة وتحوّلها إلى كيانات صغيرة، وسقوطها في الحرب الأهلية والتطهير العرقي.. وهو تعريف يوجز تاريخ منطقة البلقان.

يُشكّل الإسلام ثاني أكبر ديانة في البلقان، وينتشر المسلمون خاصّة ضمن ما يُعرف بـ "الهلال الإسلامي"، الممتد في دول البوسنة والهرسك، وألبانيا، ومقدونيا، وكوسوفو. وتتراوح نسبهم ما بين (40%) في مقدونيا إلى (95%) في كوسوفو.

البداية.. وتأسيس جمعية الشبان المسلمين

في أعقاب تفكك يوغوسلافيا مطلع تسعينات القرن الماضي، ظهرت دول عديدة في البلقان، واستعادت المجتمعات الإسلامية حيويتها وأعلنت حركات الإسلام السياسي عن وجودها.. الذي تعود أصوله الفكرية إلى أوائل أربعينات القرن الماضي حين قرر علي عزت بيجوفيتش ومعه مجموعة من الشباب المسلم من طلاب جامعتي زغرب وبلغراد تكوين جمعية باسم جمعية الشبّان المسلمين، وفق أحكام القانون، تزامن ذلك مع اجتياح النازيين الأراضي اليوغسلافية.. انتشرت دعوة الجمعية بين الشباب المسلم في شتى بقاع البوسنة والهرسك.

استيلاء الشيوعيين على الحكم في يوغوسلافيا

 حتى عام 1945، لم يحدث أي صدام بين الجمعية  والسلطة.. لكن بمجرد أن سيطر الشيوعيون على مقاليد الحكم.. انقلبت الأمور رأسا على عقب.

حاول الشيوعيون استمالة شباب الجمعية بشتى الطرق دون جدوى، فلما فشلوا بدءوا في الزج بهم في السجون  والتنكيل بهم وتلفيق القضايا لهم.

في خريف 1945، حاولت السلطات السيطرة على جمعية إسلامية أخرى، هي جمعية علماء المسلمين، ولما لم يفلحوا شنوا عليها هجمة شرسة قامت على الافتراءات والأكاذيب؛ فهبّ بيجوفيتش ورفاقه للدفاع عن الجمعية بالخطب النارية ضد التوجه الإلحادي؛ فالتف حولهم الشباب بالآلاف.. فاعتقلت السلطات بيجوفيتش وعددا من زملائه ثم أفرجت عنهم.. لكنها وضعتهم تحت الملاحظة والمراقبة.

اعتقال بيجوفيتش ومحاكمته

في ربيع مارس 1946، أصدرت السلطات أمر اعتقال شمل خمسة عشر اسما كان على رأسهم بيجوفيتش.. وبعد محاكمة هزلية حكم عليهم بالسجن ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة.

في الأعوام الثلاثة التالية صعّد الشيوعيون من حملاتهم ضد جمعية الشبان المسلمين، فاعتقلت مجموعة أخرى عام 1947، ومجموعة أخرى عام 1948، وفي العام التالي وسّعت السلطات موجة الاعتقالات التي تلتها محاكمات هزلية صدر فيها أحكام إعدام بحق عدد من شباب الجمعية. وكان من بين الاتهامات الموجهة لأعضاء الجمعية تهمة الإرهاب في الوقت الذي لم يمارس أعضاء الجمعية أية أعمال عنف.. ولم يخرجوا حتى في مظاهرة واحدة.. وكان كل نشاطهم كتابة المقالات وإلقاء الخطب وعقد الاجتماعات في إطار من العلانية.

بعد ثلاث سنوات خرج علي عزت من السجن العسكري بعد أن قضى فترة العقوبة بين عُتاة المجرمين والمحكومين بالإعدام. اتجه الشاب البالغ من العمر أربعة وعشرين عاما إلى الزواج وتكوين أسرة، وعاود بيجوفيتش نشاطه السابق في جمعية الشبان المسلمين التي أصدرت السلطات قرارا بحظرها، وبعد أربعين يوما من خروجه ألقي القبض على زميله حسن بيبر، الذي تعرّض للتعذيب الشديد للإدلاء بأسماء الناشطين في العمل بالجمعية؛ لكنه أبى.. فأصدروا حكما بإعدامه رميا بالرصاص.. ونفذوه دون إبطاء.

الرئيس تيتو

سراييفو شاهدة على فساد الحكم الشيوعي

يروي علي عزت شهادته عن حال مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك حين رآها فور خروجه من السجن؛ فيقول إنها كانت في قمة البؤس لا يوجد في محالها التجارية سوى القليل من الزيت والسكر والدقيق ورديء الأقمشة.. وكلها تباع بنظام الكوبونات.. بينما تزدحم المحال الخاصة برجال الجيش وأعضاء الحزب الشيوعي وأعضاء الحكومة بما لذ وطاب من أفخر أنواع الألبان الأمريكية والشكولاتة وغيرها.. إلى جانب امتيازات هائلة لتلك الفئات في المرتبات والسكن والسيارات والمدارس.. ما خلق تباينا بشعا بين طبقات المجتمع. 

قبل وفاة تيتو بخمس سنوات عام 1975، حدثت انفراجة طفيفة وشعر الناس ببعض التحسن.. لكن ذلك كان على حساب الدين الخارجي الذي بلغ 20 مليار دولار.. وبعد وفاة تيتو عام 1980، اندلعت نار التعصب الصربي لتطال كل شبر في اتحاد الجمهوريات، وكان للإسلام والمسلمين النصيب الأوفر من هجوم القوميين الصرب المتطرفين.

مدينة سراييفو

"الإعلان الإسلامي" وتجدد محنة السجن

ويتعرض علي عزت بيجوفيتش لمحنة السجن مجددا عام 1983، بعد تلفيق قضية.. كان كتابه "الإعلان الإسلامي" هو دليل الإدانة المزعوم فيها. كان الكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات نُشرت في مجلة المسلمين الرسمية خلال عقد السبعينات.. ولا تتضمن تلك المقالات أية إشارة ليوغوسلافيا أو البوسنة.. تناولت المقالات رؤية مؤلفها للمجتمع الإسلامي والحكومة الإسلامية، ولم يُسقط - ولو لمرة واحدة- رؤاه تلك على أوضاع المسلمين في يوغوسلافيا.. لكن الكتاب صار وسيلة المتطرفين الصرب لتشويه الإسلام، فعمدوا إلى تحريف الكتاب بإضافة عبارات عدائية وتعبيرات تشي بالهجوم على المسيحية والحضارة الغربية.. وهو ما فضحه عدد من الباحثين الأوربيين المنصفين؛ فيما بعد. 

أصدرت المحكمة أحكامها الجائرة على بيجوفيتش ورفاقه، بعد الاستماع إلى الشهود الذي كانوا إما تحت الضغط وإرهاب الشرطة السرية، أو شهود زور دربوا على قول الإفك أمام القضاء.. وكان نصيب بيجوفيتش هذه المرة حكما بالسجن خمسة عشر عاما، خُففت بعد ذلك إلى اثني عشر عاما مع الأشغال الشاقة.

الخروج من السجن وتأسيس حزب العمل الديمقراطي

في عام 1988، وبعد تراجع الحكم الشيوعي في البوسنة والهرسك صدر قرار بالعفو عن بيجوفيتش، وأفرج عنه بعد ما يقرب من خمس سنوات قضاها في السجن، وكان وضعه الصحي قد تعرض لمضاعفات خطيرة.. في العام التالي سقط سور برلين في نوفمبر.. وتلاحق سقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا إيذانا بانهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه في السادس والعشرين من ديسمبر 1991.

على عكس ما أشاع أعداؤه.. لم يكن بيجوفيتش انفصاليا.. ولم يكن أحد أسباب تفكك اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية.. فقد كان يرى أن انهيار الاتحاد ليس في صالح المسلمين.. كان يطمح في حظوظ عادلة من الإدارة والسيادة للقوميات المختلفة. كان استيلاء الصرب على المناصب في البوسنة أمرا فجا، استولوا على كل المناصب العليا في الشرطة تقريبا، وحوالي 65% من رتب الضباط في الجيش.. الذي كان نصيب المسلمين وهم الفئة الأكثر عددا في البوسنة -45% تقريبا- ما لا يزيد عن 7% فقط من تعداد الجيش، الذي ضم له الصرب أعدادا كبيرة من الجمهوريات الأخرى.. ويعلق بيجوفيتش على ذلك قائلا: "كنتُ مرتبطا عاطفيا بيوغوسلافيا؛ ولكني كنت لا أحب الهيمنة الصربية".

أسس بيجوفيتش فور خروجه من السجن مع عدد من رفاق النضال الطويل- حزب العمل الديمقراطي الذي فتح أبواب عضويته للجميع؛ ولم يقصرها على المسلمين فقط.

فاز الحزب بالانتخابات البرلمانية في ظل ترصد القوميين الصرب المتطرفين الذين كانوا قد أعدوا العدة للفتك بالمسلمين.. رغم كل الجهود التي بذلها بيجوفيتش وزملائه لتجنب ذلك.

يُعلّق علي عزت على الأمر بقوله: "للأسف كانت مثالية بلا مردود عملي.. ففي سنة 1992، فوجئ العالم بالإرهاب الصربي المروِّع الذي اجتاح المسلمين في "فوتشا" مرة أخرى - ارتكب الصرب فيها مذبحة ضد المسلمين قبل ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية- بل أسوأ مما حدث في الماضي، فقُتل من قُتل، وأجبر السكان الباقين على الهجرة القسرية، ودمر الصرب كل مساجد المدينة، وكان من بينها المسجد التاريخي الشهير "ألاديا".. وهو تحفة معمارية من القرن السادس عشر الميلادي".

حاول البعض تخريب حزب العمل الديمقراطي من الداخل بتدبير انقلاب بقيادة "ذو الفقار باشتيش" لكن الشعب كان خلف قائده، وأفشل الانقلاب ونظمت انتخابات داخلية خسر فيها باشتيش وفاز بيجوفيتش.

اعترف علي عزت غير مرة أنه كان حسن الظن، عندما حاول توسيع المشترك مع صرب وكروات البوسنة؛ حتى أنه ارتضى تشكيل حكومة ائتلافية رغم فوزه بالأغلبية؛ لكنه اكتشف متأخرا أن بلغراد وزغرب تمارسان أدوارا مشبوهة داخل أروقة حكومة البوسنة.

إعلان الاستقلال واندلاع الحرب

"في فبراير من عام 1991، دعا علي عزت بيجوفيتش، إلى استفتاء وطني حول استقلال البوسنة... على الرغم من تحذيرات الأعضاء الصرب للرئاسة من أن أي تحرك نحو الاستقلال من شأنه أن يؤدي بالمناطق الصربية في البوسنة إلى البقاء مع يوغوسلافيا الفيدرالية، وقوطع الاستفتاء من قِبل الصرب الذين اعتبروا الاستفتاء خطوة غير دستورية، وقد صوت 99.4% من الناخبين لصالح الاستقلال، وبلغت نسبة المشاركة 67% تشكلت كلها تقريبا من البوشناق(مسلمي البوسنة) والكروات، وأعلن عزت بيجوفيتش استقلال البلاد في شهر مارس من عام 1992".

تلقت البوسنة والهرسك الاعتراف الدولي في 6 أبريل 1992، والاعتراف بجمهورية البوسنة والهرسك دولة عضوة في الأمم المتحدة في يوم 22 مايو 1992، واندلع القتال على إثر ذلك وسط تخاذل المجتمع الدولي وعدم إرسال قوات حفظ السلام.. تفاقمت الأوضاع وارتكب الصرب مذابح كثيرة ضد المسلمين المدنيين إلى أن توقفت الحرب بتوقيع اتفاقية دايتون للسلام في 21 نوفمبر 1995، والتوقيع على النسخة النهائية من اتفاق السلام في 14 ديسمبر 1995، في باريس.

بعد اتفاقية دايتون نشر حلف شمال الأطلسي قوات في البوسنة والهرسك، قُدّرت بثمانين ألف جندي، كُلِّفت بإطلاق النار عند الضرورة.. إلى جانب مهام أخرى لتقديم الدعم والمساعدات الإنسانية.. لكن القوة تورطت في أكثر من عمل شائن.. منها التواطؤ مع الميليشيات الصربية. 

بعد انتهاء ولايته الرئاسية في أكتوبر 2000، اعتزل بيجوفيتش العمل العام، بسبب اعتلال القلب.. إلى أن توفي -رحمه الله- بسراييفو في التاسع عشر من أكتوبر2003، بعد حياة حافلة بالنضال؛ لإعلاء كلمة الحق في البلقان.. أحد أخطر مناطق العالم عبر التاريخ.