هشام الحمامي يكتب: اغتيال إفلاس.. والمتكرر العدو لنفسه

ذات مصر

من علامات الهزيمة التي تسبق النهاية أن يكرر المرء نفسهن مستخدما نفس أدواته القديمة، وصدق من قال (المتكرر عدو نفسه).. لأنه رغم شروق نفس الشمس على وجه هذه الأرض كل يوم، إلا أن الله قضى لها أن تحمل دائما كل جديد، يتغير ويتطور الى الأفضل، مع القطع دائما والتأكيد دائما، بأن حرث أرض أبيك بنفس محراثه فشل كبير، فشل بارد ممتد، لن ينتهى بصاحبه إلا إلى الانتهاء نفسه.. هنيئا له بالانتهاء ..!

في كل الأحقاب التاريخية لأبناء أدم عليه السلام وأدبياتها التي امتدت عبر الحكايات المروية، والمدونات المكتوبة، ستجدهم دائما يحكون لنا عن شجرة كبيرة عتيقة، جذورها تملأ الأرضين وغصونها تمتد إلى السحائب ودائما دائما ستجد أن سائل الحرية الأحمر، ينساب منها، ليذكر أهلها أن هذا الدم الذى تصاعد من جذورها وتقطر منها هو دم أباءهم وأجدادهم، وأنها ستعلو وتعلو وتمتد وتمتد كلما ارتوت بدم الأحرار.

والأحرار هنا لن يطعنوا انفسهم لينزفوا ويرووها .. لا .. إنما سيتقدمون بصدورهم، في وجه عدوهم، ليحموها ويمنعوا الأرض التي تتجذر فيها، جذر بعد جذر ثم يليه جذر .. وعدوهم بذلك يكون قد قدم لهم أسمى أمانيهم.

***

ومن أسوأ السوءات التي أكتشفها عالم الأرض عن(الصهيونية) بعد (طوفان الأقصى) أنها ليست فقط ضد الإنسان بل ضد تاريخ الإنسان نفسه .. وللمرة الألف بعد الألاف سنقول رحم الله د/ عبد الوهاب المسيرى الذى قال لنا هذا، سطورا مكتوبة تمنينا أن نراها ويراها العالم واقعا مشهودا، وقد كان .. 

و يا لروعة الصدق حين يتجلى في صدور الصادقين فيأبى الا أن يكون شاهدا وشهيدا في صدر الوجود كله .. والا فليس صدق ولا صادقين هنا .       

هل كان قلم الدكتور عبد الوهاب يجرى على السطور لتمر من تحت هذا القلم كل هذا الصدق الذى جرى ويجرى كل يوم ونراه في غزة، ويسرى عبر الوجود كله ليكون صدقا شهيدا .. 

***

لماذا يذهب البعض بعيدا في الأذى؟ لا أتصور أنهم يدركون أبعاد ما يفعلون، هم لم ولن يعرفوا ذلك.. هم مجرد أداة في يد التاريخ، يفعل بهم ما يشاء فيتحقق له ما يريد منهم ثم يلفظهم بعيدا.         

هكذا قال لنا الأديب الفرنسي (شاتو بريان) عن نابليون مثلا الذى سخر منه في كتابه عنه وأطلق عليه (بونابرتي) 

وهكذا قال لنا المؤرخ البريطاني (ارنولد توينبى) حين حدثنا عن الصهيونية التي هاجمت أرض فلسطين بغير حق وقال إن مأساة التاريخ اليهودي الحديث هي أنه بدلا من أن يتعلم اليهود من مصائبهم وآلامهم في أوروبا وكل التاريخ صنعوا بغيرهم ما صنعه الأخرين بهم .. وحمل بلاده بريطانيا مسؤولية التفجر الدائم في الشرق الأوسط..وكان الرجل كبيرا في مقامه و قيمته فلم يتمكنوا منه، وبقيت كلماته أحد أهم المرجعيات التي تقرأ كل يوم، لفهم هذا الذى يحدث في هذه الأرض المباركة.. 

***

من رحم التاريخ يستولد لنا (الشرط الإنساني بطهرة ويقينه) كل العبر والاعتبارات.. لتبقى دائما (الحقيقة) كما هي، بنت النور وأم السعادة .. سعادة الدارين منتهى أمال (المؤمنين) وأمانيهم .. فليست هذه الدار الدنيا إلا وبعدها الدار الأخرى .. هكذا قال لنا العقل: ليس هناك عبث في الوجود.. يستحيل وغير ممكن، وهكذا قال لنا الوحى: (خلق الله السموات والأرض بالحق..) .

اغتالوا (إسماعيل هنية)  .. رائع .. لكأنكم أصدقاؤه الذين يعرفون أحلامه في الحياة ..   إنه الموت؟ ليكن ..

(كم كان سلوكي سيبدو سيئا لو أنى عصيت الله فيما أعتقد ) ..                                 

(لا أخاف الموت ولا أعرف طعمه ولعله شيء جميل فيما أظن، غير أنى على يقين أن هجران واجبى شيء قبيح) هكذا قال سقراط لقضاة أثينا وهم يحاكمونه ويرتبون لقتله..

***

ولكم أن تتخيلوا ماذا سيكون قول (إسماعيل هنية) وكل إسماعيل هنية سيأتي ؟ .                                          

سقراط الذى قال هذه الجملة العظيمة لم يكن قد امتلك قلب الحقيقة كما امتلكها (إسماعيل هنية) لا نعلم عنه ذلك فيما جاءنا عنه  .. 

لكننا نعلم أن (إسماعيل هنية) كان يتلوا من التنزيل .. تنزيل الحكيم الحميد، ما يجعله ينفذ إلى قلب الحقيقة وليس فقط يمتلكها .. لتمتزج به ويمتزج بها حتى أصبح هو تلك الحقيقة والحقيقة إياه ..                                                   هكذا كان الصادقون عبر كل الأزمان، اختلطت نفوسهم بفكرتهم، وفكرتهم بنفوسهم فكانوا هم الفكرة ، وكانت الفكرة إياهم . 

***

جمال الدين الأفغاني (النار التي تعلو علم الإصلاح الكبير) في التاريخ الإسلامي الحديث انتقل شهيدا .. وستمر (عبر)أفكاره الثائرة الهادرة كواكب من الرجال،الذى صدقوا كما صدق ، فينتقلوا إلى الأخرة كما انتقل .. 

وسيمر إلى (جوار) أفكاره الثائرة الهادرة كواكب من الرجال، فيتعلمون الكثيرويقبسوا من قبسه ما شاء الله لهم ..فينتقلوا وإن لم يكن كما انتقل .. كان سعد باشا زغلول يصفه بموقظ الشرق.. واخذ الباشا منه ما قٌدر له أن يأخذ له وانتقل.

وفى كل خير .. من عاش عبر الأفكار يحملها وتحمله.. ومن عاش إلى جوار الأفكار ينظرها وتسبقه ..  وسلام على ساكني الأرض من أهل الأفكار والأنوار.. كانوا فيها حياة وشهادة، أو كانوا معها حبا وكرامة. 

***

لكن السيد هاكان فيدان وزير خارجية تركيا والذي كان صاحب أدق وأصدق وأحق وصف قيل في نعى (أبو العبد) الشهيد إسماعيل هنية، قال: (كنا نراه فيذكرنا بالله)، وحين تعرف أن قائل هذه الجملة الدامغة، كان رئيس مخابرات سابق، سيكون الوصف هنا له ألف اعتبار واعتبار.

فهل كان الاغتيال يهدف إلى إحداث اختراق لهذا المعنى الجليل في الوجدان العربي والفلسطيني؟ إذا كان ذلك كذلك، فنحن أمام حالة ضعف وخيبة، لا تثير فقط الدهشة، ولكن تثير الشفقة على من فكر وقدر ونظر في قرار كهذا.. 

لم اذهب بعيدا في التوقع ! 

لكن عملية الاغتيال هذه واستنادا إلى كل الغايات البعيدة، لا تهدف إلى أي شيء جوهري واستراتيجي، في المعطيات المفهومة للواقع بكل توصيفاته وتنويعاته.

***

ماذا عن البلد الذي تم الاغتيال فيه؟ 

وسنسأل نفس السؤال عن ما هو جوهري واستراتيجي، في هذا الاعتداء الفاضح على سيادة هكذا بلد وكرامتها وشرفها التاريخي، في اغتيال قائد كبير، لمعركة كبيرة، في أيام لن ينساها التاريخ، أيام معركة (طوفان الأقصى).. 

وما إدراك ما أيام معركة (طوفان الأقصى) في التاريخ الحديث والمعاصر بل في كل تاريخ الإسلام.

أنت تريد هنا أن تكسو هذا البلد العار والذل أبد الدهر كله! إذ من سينسي هذه الأيام عبر كل تاريخ هذا الصراع الكبير؟ 

نحن نعيش الأن الأيام التي يسبق فيه القدر الحذر. وتندفع تلك الأيام في الزمن كالطوفان، لتمحو وتكشف وتعلى وتخفض.

وسبحان الله وتعالى وعد المؤمنين وعد صدق، بأنه لن يضيع إيمانهم وصبرهم .. انه بعباده رؤوف رحيم.

فما ظنكم بوعد الله ..؟ وما ظنكم بمن صدق وعد الله ...؟