علي الصاوي يكتب: غزة..أولوا العزم من البشر

ذات مصر

في زمن العولمة التي اكتسحت المجتمعات، وباتت ثقافة واحدة هى المهيمنة على المداخل والمخارج في عقول وأحشاء الدول، يظهر دور الإعلام كسلاح فتاك من يمتلكه يستطيع أن يُوجه ويُحرّض ويُعبئ، ويقلب الحقائق ويتلاعب بالعقول، لذلك قالوا: ينتصر في الحروب والصراعات من تنجح قصته الإعلامية أولا وإن كان هو المعتدي، وقد تجلّىت تلك الحقيقة في قول أحد الباحثين اليهود: إن الإعلام العالمي يخدم دولة الاحتلال الإسرائيلي حيث يُحول قتلاها إلى قصص إنسانية، بينما يقدم الضحايا الفلسطينيين مجرد أرقام، وتلك كانت القصة باختصار على مدار عقود سابقة.

لكن اليوم تغيرت السردية وفرضت دماء غزة الأبية على الكسر، نفسها على كل السرديات الإعلامية، في أمريكا والغرب وحينما حاولوا لىّ عنق الحقيقة وتلفيق القصص لم يصدقهم أحد، فمنهم من اعتذر ومنهم من أنصف ومنهم من صمت، وانتفض الناس في الغرب وأمريكا لأول مرة نصرة لغزة وللإنسانية، فحقيقة الشيطان بانت سافرة هذه المرة، اهتز العالم أجمع لجرائم الاحتلال ضد أهل غزة، من عقائد مختلفة وأعراق غريبة عنهم والعرب نِيام، بل منهم من ساعد العدو على بني جلدته سياسيا وإعلاميا بلا حمرة خجل،  هذه الحرب تختلف عن كل الحروب السابقة، ما يُضفي عليها الإبهام وصعوبة التنبؤ بما سيحدث لاحقا في المنطقة والعالم، غير أن كل المعطيات تشير إلى أن أسطورة الكيان في الطريق نحو السقوط، والقوى العظمى في الطريق نحو صدام عالمي وإن كان يسير ببطء، فجميع السياقات مهيئة وذرائع الصدام حاضرة.  

بطولات تُسَطر كل يوم على يد المقاومة، وصبر لا تقوى عليه الجبال الرواسي، تدثر به أهل غزة رغم شدة الألم، تكالب الجميع عليهم برا وبحرا وجوا، ولحفظ ماء وجوههم شجبوا واستنكروا واكتفوا بمشاهدة الدماء تسيل على شريط الأخبار ببرود وتبلد، فقد ألِف الجميع المشهد وبات حدثا عاديا، وكأن شدة آلام أهل غزة جاءت قياسا على عظمة صمودهم وجلدهم ومكانتهم السامية عند الله، نقرأ فيها دروسا تربوية ورسائل ربانية واضحة المعاني والدلالات لمن كان له قلب أو ألق السمع، كأن الله اصطفاهم كما اصطفى أنبياءه ورسله، ألا أنهم أنبياء الألم، فحازوا شرف أولوا العزم من البشر كما حاز من الأنبياء شرف أولوا العزم من الرسل.

جاءت مجزرة مدرسة التابعين التي قصف فيها الاحتلال النازحين في صلاة الفجر لتؤكد أن هذا العدو المتغطرس لا ينفع معه تفاوض ولا سلام بل مزيد من المقاومة والتأديب ودعس أنفه في التراب، هذا العدو لا يريد سوى الاستسلام ليحفظ نتنياهو ماء وجهه، فمصيره ومصير دولته المزعومة بات على المحك، لذلك يندفع بصناعة أى حدث إرهابي كى لا يغرق في الهزيمة التى تُوجعه يوما بعد يوم، وقد استدرج نفسه من حيث لا يشعر بتصلبه واتكاله على مساعدة الإمريكان والصمت العربي المخزي، وما غطرسته تلك إلا فخ نصبه لنفسه ليزداد العالم سخطا على الكيان ويعود سيرته الأولى منعزلا ومنبوذا إلى أن يزول." فإذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم".

لن يستطيع هذا الكيان الغاصب طرد أصحاب الأرض، هم كالجذور تَستعصي على الخلع، وشمس إذا غربت في جهة أشرقت من جهة أخرى، وجبال ذي أوتاد، مهما نَحت منها الزمن وأخذت الريح من حوافها، ترى كل فِند منها يقف شامخا لا يتأثر، هم السيف المُشرع في وجه الباطل، لن يحن إلى غِمده إلا بعد أن يبرى نصله بقطع رقاب غليظة حان وقت قِطافها، واستئصال ذاك الخَبث الذي نبت في أرض كتب الله عليها أن تكون ترمومتر الإيمان ومحل اختبار الشعارات وتبديد خرافات سياسية باتت من الأساطير القديمة.

قديما كانت تلك الأرض المباركة قبلة ربانية واليوم هى قبلة الإنسانية ومصنع الرجال ومِجهر كشف الحقائق، انقطع عنها مدد الأرض ولم يبق سوى مدد السماء برحماتها وجنودها، وفوق كل ذلك إله حكيم عليم لا يعجل لعجلة أحد، لعله أراد لمعركة بدر أن تتكرر ففرّغ من حولهم كل طاعن ومثبط وعميل ليتكفل بنصرهم ويبهت الذي خان وكفر، فهذا النوع من المعارك الهلاك فيه شرف، ومن فضل الله وعدالته أن لا يهب هذا الشرف لكل أحد.

والذين يشككون في ضعف تسليح المقاومة وتفاوت الإمكانات بهدف التثبط والضرب المعنوي، نسوا أن على مدار التاريخ كانت الأقلية الصادقة هى محور التقدم والنصر، أصحاب الحق الذين يقاتلون بعقيدة وإيمان راسخ، أما الأكثرية التى جمعت بين القوة والباطل، كانت غايتهم هلك الحرث والنسل وحصد الغنائم، عقيدتهم الرغبة في البقاء والسيادة بالقوة ما دامت في متناولهم، ينتصرون جولة أو جولتين، ثم يُهزمون بعد ذلك هزيمة ساحقة ويدخلوا ذمة التاريخ، ويبقى أصحاب الحق في المقدمة وإن ضعفت قوتهم وقل عددهم وطال بهم الظلم، لتعود الكَرة وراء الكَرة، وهكذا تتدافع العقائد والأفكار عبر محطات التاريخ ولا يصمد منها إلا ما ينفع الناس من رسالات حضارية تحمل قيم العدالة والإنسانية، في النهاية الحق سينتصر بك أو بغيرك فهذا أمر محسوم، لكن ما لا تضمنه أنت هو موضع قدمك ومكانك وقت التدافع واشتداد الملحمة، مع أى فريق تكون