علي الصاوي يكتب: قلم تركي آل الشيخ الذهبي

ذات مصر

تَغيب القيمة عندما يطغى المال، الذي ما إن يتمكّن من أى فن سرعان ما يُحوّله إلى بورصة تجارية تشتري المبدعين وترفع أسهمهم وتخفضها بحسب أهمية أدوارهم في سوق التضارب الفني، يرادف تلك الظاهرة الخطيرة وجود صنف من المبدعين أو أنصاف المواهب الذين يعشقون التسطيح إن كان سيَدر عليهم الأموال والشهرة، شعار بعضهم أحيانا: "واكبوا الترند واحذوا حذوه وإلا انطفأ وهجكم الفني وقعدتم في بيوتكم تعدون نجوم السماء كل مساء".

يسلب المال قداسة الفنون ويُحوّل بعضها إلى سلعة فاقدة للجودة وتقضي على رسالة الفن المعنوية التى تؤثر في العقول والأخلاق، وتصنع صورا ذهنية بحسب المتحكمين فيها عن قضايا بعينها في رأس المتلقى، وبالتالي يسهل التلاعب بعقله وقتما شاؤوا، وتلك هى الغاية من سيطرة رأس المال الفني والثقافي على المواهب الإبداعية والانتاج الفني.

قرأت مؤخرا عن جائزة القلم الذهبي في الأدب التي أعلن عنها المستشار السعودي تركي آل الشيخ وقيمتها المالية الكبيرة، وهذا أمر لا حرج فيه على الرجل الذي يريد تشجيع المواهب ويُقدّر إبداعهم، لكن أليس المبلغ المرصود للجائزة مبالغا فيه؟ خاصة وأن قيمته تجاوزت 500 ألف دولار فما فوق، ما يجعلها أكبر من جائزة كتارا والبوكر وتأتي في المركز الثاني بعد جائزة نوبل؟

النظرة العامة تقول إن سياسة تركي آل الشيخ الاحتكارية ورغبته في شراء كل شيء بالمال في مجالات عدة سواء في الفن والكرة والإعلام يجعل أى نشاط جديد له محل تساؤل وإعادة نظر، قد يكون هذا النفوذ والبذخ اللامحدود غايته التأميم والسيطرة لفرض المحتوى الذي يخدم سياسة المملكة لتزداد ثقلا ويزداد من حولها تبعيّة لها وفقا لرؤية قادتها، وهذا حقه أن يسعى في تحقيق مصالح بلده لكن ليس على حساب سمعة وتاريخ دولة تعتبر رائدة في صناعة الفن الراقي في العالم العربي، وكانت تمتلك طاقات إبداعية ليس لها نظير في محيطها، فأن تنزل من رأس القمة إلى سفح القاع فهذا هو الخذلان بعينه.

فلا حرج على سيادة المستشار أن يطمح ويشتري ويستثمر لكن من دون "سعودة الإبداع المصري" وتسطيحه وإضفاء طابع التفاهة على محتواه، لكن اللوم الأكبر يقع على مَن يصفقون في الفاضي والمليان ويلهثون وراء المادة من دون اعتبار لأى قيمة، أولئك الذين يفتحون الباب لأى طارق في جعبته ملايين الدولارات فيضربون بقيمة الفن ومحتواه الهادف عرض الحائط، فكيف كان السابقون قديما من رواد الفن والأدب وإلى أين انتهى اللاحقون؟

الإبداع الحر المتجرّد كان سمة الأولين في الفكر والأدب والفن، وقلما تجد من يُضاهي أمثالهم في القيمة والقامة وعفّة النفس، إلا النذر اليسير ممن بخس الناس والإعلام قدرهم،  والسبب بسيط، فالأولين أخلصوا للإبداع،  فرّغوا حياتهم لغاية واحدة ولم يُسخّروا مواهبهم لجمع الأموال وتملّق الجوائز الأدبية أو السير في ركاب السلطة ومسح أذيالها، ابتغاء منصب سياسي أو منحة مالية أو الفوز ببرنامج تليفزيوني، صدقوا الفن فصدق معهم.

أما عن بعض المعاصرين فقد حوّلوا الفنون إلى تجارة صرفة بقدر ما هى رسالة، هدفها صناعة وعي حقيقي يُوقد دروب المجتمع المظلم، ويناقش قضاياه الشائكة، ويحافظ على تراثه الثقافي والقيمي، فتحولوا بسهولة إلى أبواق مستأجرة ودوائر للشليلة وأشولة الرز، فجرّوا على الفن كل نقيصة هو منها براء، وبات التشكيك والهدم والإساءة لكل قديم سمة من سمات أعمالهم، والمدح والثناء وجبات يقتاتون عليها بكرة وعشيّا لنيل صكوك بطولة هنا أو هناك، تلك الفلسفة البائسة وهذا التموضع السطحي هما الأقرب إلى تحصيل المال وتسليط الأضواء، والرضى من عِيلة القوم في عصرنا الحالي، وهذا هو الفرق بين أجيال عاشت حياتها للموهبة وأجيال عاشت حياتها من الموهبة.