إبراهيم عبد المجيد يكتب: مش روميو جولييت.. لكنه الحب ينتصر

ذات مصر

تأخرت كثيرا في مشاهدة هذه المسرحية الرائعة " مش روميو وجولييت" لأسباب تخص صحتي ووقتي، أنا الذي لم اتأخر عن مشاهدة المسرح طوال حياتي، فما بالك بمسرحية يقدمها مخرج عظيم هو عصام السيد الذي لم تفتني مشاهدة الكثير جدا من أعماله عبر الزمن، ومنها مثلا  في السنوات الأخيرة "أهلا يابكوات" التي استمر عرضها لثلاث سنوات مابين عامي 1989-1991 وأعيد عرضها عام 1993، ثم عام عام 2006 وفى جميع المرات نجحت نجاحا فنيا وجماهيريا باهرا.

 وكذلك" اضحك لما تموت " التي عرضت عام 2018 وبينهما وقبلهما مسرحيات كثيرة عظيمة تتجاوز الأربعين مسرحية منذ الثمانينيات. ذهبت هذه المرة ومعي تاريخ المحبة لأعماله والجمال، وخاصة أني أعرف أنه سيقدم شكلا مسرحيا باهرا ومبتكرا فضلا عن الموضوع . في رأيي دائما يظل الشكل الفني هو أبرز ما يقدمه المخرج . 

ناهيك عن أسماء المشاركين معه في العمل مثل الشاعر الرائع أمين حداد الذي هو موهبة فذة في الشعر العامي ، وأسماء الممثلين مثل المطرب " علي الحجار" الذي ليس في حاجة إلى تعريف. صاحب الحنجرة الذهبية التي يأتي منها الصوت فيملأ مساحات من الفضاء في هدوئه أو ارتفاعه، أو رانيا فريد شوقي التي برعت في أفلام ومسلسلات عديدة بطلّتها الباهرة وتوحدها مع ما تؤديه من أدوار بشكل يأخذك عما حولك، أو صاحب الأعمال المميزة في المسرح عزت زين لا أنسي منها " قواعد العشق 40 " التي عرضت منذ سنوات علي مسرح السلام وإنجازاته في مسرح الثقافة الجماهيرية، فضلا عن شباب مثل محمد عادل الذي رأيته أول مرة منذ سنوات في مسرحية " بس انت مش شامم" مع الرائع الاستثنائي فتحي عبد الوهاب ثم في مسلسلات تليفزيونية.

 وأسماء سأراها لأول مرة وتمكنت من روحي أثناء العرض مثل أميرة أحمد التي قامت بدور المدرسة تيريز غريمة رانيا فريد شوقي التي فتنني صوتها وعرفت أنها أصلا مغنية في الأوبرا، أو دنيا النشار تلميذة الثانوي التي قامت بدور جولييت القصير لكنها أخذت قلوبنا معها وكان وقوفها في النهاية صامتة علي جانب خشبة المسرح كأنها لا تصدق أن للحب هذا الجمال ولم تفرق بين التمثيل والحقيقة فتماهت معهما. 

وكذلك طه خليفة الذي قام بدور الشاب المتطرف نجاتي، وسيأتي الحديث عن الكثيرين من الممثلين . هل المسرحية عن روميو وجولييت مثلا أم هي عن قصة معاكسة لها. هي ليست هذا ولا ذاك . هي عن الحب كقيمة إنسانية ترتفع إلى درجة الأخوة ، وكيف يحاصرها العالم الرجعي في بلادنا، من خلال حكاية انفجرت في مدرسة ثانوية، إذ يشيع بين طلاب المدرسة التي اسمها "مدرسة الوحدة" لاحظ الإسم والفُرقة التي ستحدث وما سيوحدهم فيما بعد، تشيع إشاعة قصة الحب بين المدرسة "زهرة" المسلمة التي تقوم بدورها ببراعة رانيا فريد شوقي في سحر فائق، والمدرس المسيحي يوسف الذي يقوم بدوره علي الحجار ببراعة ليست جديدة عليه.

 مُطلق الإشاعة تلميذ شقي هو محمد عادل أو علي كما هو اسمه في النص  المسرحي، وينقسم التلاميذ ما بين مؤيد ومعارض، كما ينقسم المجتمع في فترات انحطاطه التي مررنا بها ولا نزال. تحدث الشجارات بين التلاميذ ويظهر الكيد علي المدرسة تيريز أو أميرة أحمد الممثلة البارعة والمغنية ذات الصوت الساحر، وهنا تجد نفسك امام المخرج الذي يفتح المكان لهذه الشجارات قبل أن ترتفع الستارة إذ نسمع الشجار بينهم، وحين تسأل نفسك هل هذا خطأ واستعجال مثلا وترتفع الستارة وتري المعركة والخلاف تدرك أن المخرج  ببساطة يمهد للمعركة التي سنراها وستتكرر .  

جسد مصمما الملابس (علاء جودة / مي كمال) ملابس طلاب المدرسة الخاصة بشكل مبهج بزي موحد للطالبات أضفى على البنات  الرقة وعلى الطلاب العنف. وتأتي مصممة الاستعراضات شيرين حجازي في أجمل الصور، وكذلك مصمم الديكور محمد الغرباوي ومعهم مصمم الجرافيك محمد عبد الرازق ومصصم الإضاءة التي تتحدث في النور والظلام بالمعاني ياسر شعلان، وطبعا هناك المخرج المنفذ صفوت حجازي وغيرهم . أما المؤلف الموسيقي أحمد شحتوت الذي كتب الموسيقى للمسرحية والأغاني فبدا كأنه حارس فوق جبل الأوليمب يعرف ما يحلم به الناس من إيقاعات فترتفع أرواحهم من الأرض ناظرة إلى السماء دون مبالغة مني.

أمامك العرض في خلفيته عمارة قديمة من طراز رائع كأنها تتناقض مع مايحدث، وعن يسارك ويمينك لوحات لأعلام من المثقفين مثل طه حسين ونجيب محفوظ وقاسم أمين. أي أنك بين رواد النهضة فكيف تجري هذه الأحداث وماذا جري في المجتمع . تعرف أن بطلي القصة الملفقة أو الحقيقية فليس ذلك مهما، من منطقة شبرا وهي المنطقة التي تعد علامة عبر تاريخها علي الوحدة الوطنية، وهنا تأتي لمسة المخرج في مشاهد سينمائية في خلفية العرض عن شبرا ومن مروا بها مثل داليدا ولمسة مصمم الديكور العبقرية. 

إيجاز مبهر لتاريخ من لم يرى هذا الحي في أيامه القديمة. هذه السمة الرائعة في تعبير عصام السيد بالصورة إلي جوار الأداء والحديث الذي يغلب عليه الشعر والغناء، ليس لأنه الأكثر جاذبية للجمهور، لكن قضية الحب هي أجمل تجليات الشعر، وإحدي صوره المجسمة، فطبيعي أن تأتي فكرة المسرحية الغنائية من هذا الإدراك الرائع للمخرج عصام السيد مؤلف العرض ومعه الكاتب الشاب محمد السوري. أجل. 

كان يمكن أن يكون الحوار نثرا فلا عيب في النثر، لكن الشعر والغناء هنا أكثر تعبيرا حتي على ناحية الحاسدين أو الحاقدين فشعرهم فيه من الأسى في الصورة الفنية، كما في شعر المحبين من بهجة فارقة عن العالم. تظل الخلفية المعبرة والديكور علي الجانبين معك طول المسرحية لا تستطيع أن تأخذ عينيك بعيدا عنها فهي تختصر الكثير.

طبيعي جدا وقد انقسم الطلاب إلى فريقين أن يبحث المدرس يوسف ومعه زهرة عن حل ليظهر الناظر وهو الفنان الرائع عزت زين. كيف يكون الحل والفريقان من الشباب الجامحين مصرين على موقفهما بين رافض وموافق علي الحب بين المسلمة والمسيحي وللرفض علامات أكبر. يكون الحل مفاجئا، وهو قرار الناظر إقامة مسرحية يشترك فيها الجميع.

 وهنا تتوقف عند الطلاب وزيهم وحركاتهم وكيف دربهم عصام السيد وخاصة من لم يسبق لهم التمثيل أو الغناء أو الوقوف علي خشبة المسرح بعد من البنات والبنين. كيف صاروا جوقة من الراقصين والمغنين تتسق حركاتهم مع شعر أمين حداد ورؤاه الفارقة وايقاع الموسيقى المصاحبة. وهكذا فالتلاميذ بين شجار وفرحة، جوقة أوبرالية مع الأداء الأشبه بالبالية والكلمات، حالة توسع من المكان إلي الفضاء فهذه قضية الانسانية وليس أرحب منها. الحب وقد ارتفع إلى مرتبة الأخوة بين الأديان. يقرر الناظر أن يقوم الطلاب والمدرسون بمسرحية روميو وجولييت ليقتربوا من معنى الحب وقد يجدون حلا . 

بين ذلك لا تختفي علامات تحيلك إلى واقعية الأحداث مثل المدرس إبراهيم الذي لا يرى في شئ معنى غير زيادة الدروس الخصوصة، فهو غائب عن هذه المعاني العظيمة وقام بدوره بامتياز آسر علي ،أو الساعي الذي قام بدوره حمدي حسن المشغول بتقديم البيبس كولا لهم وهم يزهقون من تكراره وخاصة الناظر عزت زين حتي يقول له يوسف أو علي الحجار" أنا  مقاطع" فيحيلك إلى أيامنا هذه. وسواء كانت هذه الجملة في النص الأصلي أو إضافة من على الحجار فلقد أخذتنا إلى زماننا. ويأخذك أيضا مشهد النهاية حين يظهر الممثلون علي خشبة المسرح يحيون الجمهور ويحييهم، ومن بينهم يظهر محمد عادل وهو يضع الشال الفلسطيني حول عنقه، ومع التحية يقوم بفرده أمام الجمهور ليس بحثا عن احتفاء أكثر مما هو إشارة أن لا ننسى في قلب أي قضية انسانية قضية الشعب الفلسطيني الكبرى. 

قد يأخذني هذا إلى السؤال الذي شاع على السوشيال ميديا منذ أشهر، أين هي داعش والنصرة وغيرها مما يحدث في غزة، وكيف استقر لدي الجميع أن هذه الجماعات من أفعال أميركا المناصرة للصهاينة فيما يقيمونه من هولوكست للفلسطينيين ، وهو ما جرى في مصر مع الرئيس السادات حين تم فتح الباب للوهابية التي نعاني منها حتي الآن بالتعاون مع أميركا. ورغم أن السعودية التي كانت شريكة في الأمر تخلت عن ذلك، إلا أننا لا نزال نعاني. 

اختيار طلبة الثانوي ليظهر من بينهم من لا يؤيد حب المدرسة زهرة المسلمة ليوسف المسيحي، هو أحد هذه التجليات التي للأسف لا تزال تنتشر بين الأجيال الجديدة والسوشيال ميديا وتعليقاتهم شاهد على ذلك. اختيار طلبة الثانوي طرفا رئيسيا في الأزمة دلالة على ما يحدث حولنا وخطورته بوصوله إلى الأجيال الجديدة. واختيارهم لتمثيل روميو وجولييت ربما أحد أبواب النجاة، فالفن يرقق الأرواح. 

كارهو الفن مثل داعش يبيعون النساء في الأسواق. تأتي المسرحية وتحدث فيها قصة حب جديدة بين محمد عادل أو علي و التلميذة الجميلة ميرنا أو دنيا النشار التي أدت دورها ببراعة وتوحدت به، حتى صدقتْ أنه الحب رغم بكارة عمرها وما ينتظرها من أيام قد يتغير فيه رأيها بحسب حديث مدرسها يوسف، لكن دهشتها لا تزال مع أي مشاهد تمشي معه بعد العرض ولمثلها ومثل أميرة أحمد سيكون المستقبل باهرا في عالم الفن.

هنا نتوقف قليلا عند مسرحية روميو وجولييت لشيكسبير:

مسرحية روميو وجوليت كتبها شكسبير بين عامي 1593 و 1596 في الفترة التي كتب فيها كل من مسرحية حلم ليلة صيف، وريتشارد الثاني، وليس مهما الحديث عن أصل المسرحية ومن أين استقاها شكسبير ففي النهاية صارت رمزا لأعظم قصص الحب.

المسرحية تقع في مدينة فيرونا الإيطالية . وفيها كانت المعارك محتدمة بين عائلتين من النبلاء هماعائلة «منتيجيو» وعائلة «كابوليت».

خلال هذا الصراع يخرج من صلب العائلتين عاشقان.. روميو من مونتيجيو وجولييت من كابوليت. لكنهما يقادان إلى مصيرهما المحتوم وهو الانتحار بسبب هذا الصراع وخداع العائلتين وصراعهما. صارت المسرحية علامة علي أعظم قصص الحب في التاريخ واستطاع عصام السيد بقلمه ومعه الكاتب الشاب محمد السوري 

جعل النص المسرحي ( روميو وجولييت ) كمدخل لحالتنا وأفكاره في مواجهتها. أفلام عالمية كثيرة جسدت المسرحية، وكان مشهد صعود روميو ليدخل بيت جولييت من المشاهد التي حرصت عليها السينما، وتنوع بين الصعود والوقوف إلى أسفل يغني لها كما حدث من محمد فوزي وليلى مراد في فيلم " شحات الغرام". يختار المخرج عصام السيد هذا المشهد فياتي الممثلون بالسلم ليقف عليه الحبيان متواجهان. 

قبلها يتم الاستعداد للمسرحية والصراع بين الفريقين ويأخذ مشاهد درامية عالية سواء بالمقاعد التي يحملها الطلاب، أو بالسيوف التي قد تستخدم في الصراع بين العائلتين الإيطاليتين في المسرحية . السيوف التي يأتي بها الساعي الذي يقوم بدوره حمدي حسن  فيتخاطفها الطلاب ويبدأون في المبارزة توقعا لما سيحدث من خلاف. 

لا بأس أن نتوقف قليلا عند الأستاذ يوسف يعلمهما كيف تكون المبارزة فنحن الآن بصدد تقديم مسرحية يراها مدرس الدروس الخصوصية إبراهيم تضييعا للوقت. المدرس المتجهم دائما لأنه من عالم الدروس الخصوصية والذي قام بدوره بإتقان آسر علي.  يتم طلب من يقرأ من التلاميذ والتلميذات من النص الأصلي للمسرحية. علي أو محمد عادل وأمامه ميرنا أو دنيا النشار بعد أن تم تجريب أكثر من تلميذ وتلميذة . 

تحدث قصة حب جديدة بين محمد عادل ودنيا النشار أو ميرنا التي قامت بدور جولييت ... إذن الحب لن ينتهي رغم موقف الأستاذ يوسف الوسطي من المسألة ونصائحه لميرنا التي أحبت روميو الجديد على أو محمد عادل. إذن كيف ينتهي الحب وهو ليس في المسرح أوالفن فقط من فضلك.  قبل النهايات تظهر مجموعة ترتدي السواد من أعلى إلى أسفل  فلا تعرف هل هم رجال أم نساء ، تتحرك بين أبطال العرض لمسرحية الحب الخالدة روميو وجولييت كأنها نذير بالشر القادم . ما تكاد تتحير في ظهورهم حتى تقع الواقعة وتعرف معني النذير. 

يأتي مشهد مؤلم لمن عاصره في حياتنا المسرحية مثلي، وهو الحريق الذي شب في المدرسة. علي الفور تذكرت حريق مسرح قصر ثقافة بني سويف في سبتمبر 2005 . وكيف كان هناك مهرجان مسرحي صغير قبله وخلاله كان بعض الشيوخ في مساجد بني سويف ومرسى مطروح والسويس يستنكرون الفن. 

وحين حدث الحريق هلل بعضهم له في صلواتهم بالمساجد وكان هذا من أبشع ما عرفناه وقتها. كان الضحايا من الكتاب والفنانين أكثر من خمسين بين قتيل وجريح. ولأن زوجتي كنت جواري في مشاهدة " مش روميو وجولييت" وهي أخت المرحوم الناقد المسرحي نزار سمك الذي راح ضحية الحريق، أمسكت قلبي بيدي، لكنها تماسكت وإن ظلت حزينة حتي اليوم التالي لأنها تذكرت كل شيئ .

بعيدا عما هو خاص، وهو في الحقيقة عام، استطاع التلاميذ تلبية دعوة الناظر لوأد الحريق رغم تأخر أحد الأساتذة في طلب الإسعاف لأن رصيده لا يسمح . لكن اتحد الطلاب المختلفون حول قصة حب زهرة بيوسف كلهم تقريبا في إطفاء الحريق الذي حين انتهى لم يجدوا الأستاذ يوسف بينهم. وقبل أن تسدل الستار بموته ظهر ثم أغمي عليه وحاولوا إفاقته وفشلوا، لكنه أفاق بعد يأسهم يضحك قائلا "مين اللي كان بيدوس على صدري كدا". 

انتهى العرض بالرقص والغناء وانتصار الحب حتى لو لم يتحقق . حتى تيريز التي قامت بدورها أميرة أحمد غريمة " زهرة" لتي قامت بدورها رانيا فريد شوقي ، أصابها الرعب ممما يحدث، والرعب من فقد يوسف ، واعترفت لزهرة بحقها في الحب فما يواجهونه أخطر من خلافاتهم حتي لو لم تقل ذلك . الحب بين الأديان أعلى درجات الأخوة وليس نزهة أرضية هدفها الجنس مثلا.

  لم ينتهي العرض نهاية ميلودرامية بموت المحب ، بل تتسع الرؤية لتتجاوز أعداء الحب والأمل بهذه النجاة. وفي النهاية أنت مابين فنانين كبار مثل على الحجار ورانيا فريد شوقي وعزت زين وفنانين شباب بل وفنانين صبية تكون استمتعت متعة فائقة، إلى جوار النص الشعري لأمين حداد وكل من ساهم في هذا العمل الرائع  ومررت على أسمائهم، حتى لو كنت نسيت أحدا فالجميع يستحقون كل تقدير.