إبراهيم عبدالمجيد يكتب: جولة ميم في فضاء الكون

ذات مصر

أتحدث هنا عن فيلم وثائقي شاهدته مؤخرا للمخرجة هند بكر عنوانه " جولة ميم المملة" عن الكاتب محمد حافظ رجب.

هند بكر شاعرة وكاتبة قصص قصيرة وصانعة أفلام مستقلة. درست صناعة الأفلام وشاركت في تأسيس شركة "روفيز فيلمز" وهي شركة انتاج سينمائي مقرها الإسكندرية. 

شاركت من قبل في إخراج فيلم "أوضة الفيران" وكانت ضمن فريق عمل المخرج إبراهيم بطوط في فيلم " حاوي" وشاركت في مهرجانات ببلاد مختلفة مثل دبي وتطوان وساوباولو وغيرها، ويعد فيلم "جولة ميم المملة" فيلمها الوثائق الطويل الأول. هي هنا منتجة ومخرجة للفيلم وشاركها في الإنتاج محمد الحديدي كما قامت بالانتاج شركة روفيز فيلم ومدير التصوير تامر نادي وقام بالمونتاج بيتر عادل ومهندس الصوت سمير نبيل .

لن أحكي عن محمد حافظ رجب فلقد كتبت عنه من قبل في أكثر من مناسبة. بل كتبت عنه شابا في بداية السبعينات في مجلة سنابل، وأسعدني الحظ بلقائه وإن مرات قليلة. حافظ رجب حالة حقا ملغزة ومستعصية على الفهم وأسهل طرق فهمها هو أن ما جرى كان قضاء وقدرا. 

لا يهمني البحث في حياته وما جري فيها لكن المعروف والسائد أنه كان بائعا متجولا في محطة الرمل في سنوات الخمسينات وكان أيضا بائعا متجولا على الشواطئ، وقابل عددا من الكتاب المشاهير بينهم لطفي الخولي الذي عرف أنه كاتب وأعجبه ما يكتبه فاتصل بيوسف السباعي ليعمل بالقاهرة، وحدث لسنوات ثم عاد ليعمل موظفا في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية حتى إقيل إلى التقاعد. كانت معرفتي الأولي به من خلال مجموعته القصصية الفارقة " الكرة ورأس الرجل" التي مزقت كل ما استقرت عليه الكتابة القصصية في سيريالية مدهشة في الصورة. 

نعود إلي الفيلم الذي هو عمل سينمائي دقيق تمتزج فيه الصورة مع الحديث، أو الصورة وحدها تشغل مساحة تثير التساؤل، سواء في المكان الذي تصوره أمام بيته في الورديان الذي يقع على الترعة الواصلة بين الميناء وبحيرة مريوط وما يحيط بها من مخازن أو مصانع تكاثرت من الزمن، أو لقطات له وحده نائما أو جالسا بالغرفة أو في الشرفة يتأمل ما وراء الزحام  أو مع ابنته تعد له الطعام أو مع من يحاوره . 

دائما هناك تركيز في لقطات قريبة علي وجهه كانما تستجلي الكامير ما هو مضمر في المخ قبل أن يعبر عنه أو يقوله . تحادثه المخرجة التي لا تظهر في الصورة عن ماضيه وبداية كتابته في الرابطة الثقافية لشباب الكتاب من الإسكندرية في الخمسينيات فيسألها كيف عرفت. نعرف من الحوار أن بعض كتابها كانوا مثله باعة جائلين في محطة الرمل.  

إبراهيم خليل الوردي الذي كان اسمه ابراهيم خليل العسكري فجعلوا الوردي بدلا من العسكري وكان يعمل في محل الأمريكين الذي صار كنتاكي  فيما بعد ، أو جابر عبد العال الذي كان كناسا. كيف كانت ثورة يوليو 1952 دافعا لهم على الأمل فما يحدث حولهم مشجع ثم صار وهما. حديث محزن عن صديقه الكاتب البائع الذي خانته زوجته فطلقها وصار مظهره مهملا في نفسه وتزوجت هي عشيقها، وكيف تسللت القصة إلى روحه وأحس أنها ستحدث معه.  هنا تعبر المخرجة عن القضايا العائلية بصور ومانشيتات أفلام أجنبية بإسم "الأم" أو "الأب" وغيرها وبعض الأفيشات كانت فوق سينما ستراند بمحطة الرمل نفسها . هكذا في ايجاز فني نعرف أن حياته العائلية لم تكن ترضيه فهو لا يعرف هل كان أبوه يحبه أم يكرهه . المهم لم يكمل تعليمه وصار بائعا متجولا. ينقطع الحديث بحلساته في شرفة منزله ينظر إلى ما لا نري أو وهو يصلي في البيت ودعوات قرآنية مثل" قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون" وغيرها . 

الحقيقة المعروفة عنه أنه كان في آخر حياته منقطعا عن العالم لكن كان يمضي وقتا في المساجد وحده. طبعا تفاصيل صغيرة أخرى لكن مهمة. فحين قابل يوسف السباعي سأله كم تريد راتبا فأجاب ثلاثين أو أربعين قرشا في اليوم . 

إنها لغة البائع المتجول. عينه يوسف السباعي باثنتي عشر جنيها في الشهر في القاهرة. نعرف من حديث المخرجة كيف قابلته في حفل توقيع أعماله الكاملة الذي حضرته أنا منذ سنوات فيقول لها ما مضي قد مضي. تبدو هذه العبارة مفتاح كل الأفعال . 

نحن لا نعرف السبب الأكبر لهجره للقاهرة والعودة إلى الإسكندرية، وهل كانت مجرد خلافات في العمل أم مشاكل في حياته. هو لا يتحدث فيما شاع وكتب عنه هو قصصه في حياته الزوجية الخاصة بالقاهرة. في الفيلم كثيرا ما تظهر ابنته سامية تطعمه أو تعد له الطعام. من المشاهد المؤثرة كيف حلقت له ذقنه فصار شخصا آخر في بقية الفيلم وتغيرت حتي ملابسه وصارت أجمل.  

سامية التي كانت تكتب الشعر دون علمه وفازت بجائزة الشعر عام 1997 وعرف أنها تكتب الشعر ولم يكن مرتاحا لذلك ليس لأنها أنثي لكن لأنه لا يريد لها نفس نهايته. لقد رحلت سامية قبل وفاته في فبراير 2021 بشهرين تقريبا فلحق بها. وكان ذلك بعد تصوير الفليم. 

 يتحدث عن جيله وكيف كانوا مجموعة من الكتاب المشردين مثل الأبنودي والدسوقي فهمي الذي كان فنانا تشكيليا ويكتب القصة أيضا وسيد خميس ومحمد جاد وإبراهيم أصلان وكيف كانوا يشعرون أنهم سيغيرون الدنيا خصوصا مع وهم التغير الذي أحدثته ثورة يوليو قبل ان تقع هزيمة 1967 ومع صورة عبد الناصر الوهمية التي فاقت الخيال . 

يقول أن الأمر ليس ماضيا وحاضرا لكنه الوهم الذي عاشوه . يتحدث ان أحداثا إنسانية وقعت جعلته يكتب بهذه الرؤي السيريالية كما قال عنه نجيب محفوظ، مثل أن يكتب قصة عن رجل قطع عنقه بيده ونام ليستيقظ في الصباح ونسمع مقطعا منها.

يدخل بنا إلي منطقة شعاره الذي شاع في الستينيات " نحن جيل بلا أساتذة" وكيف كان ذلك في لقاء تليفزيوني مع أحمد رشدي صالح حين حدثه عن أثر يحيي حقي عليهم في القصة القصيرة فقال له لا أثر لأحد والمسألة أخذ وعطا ونحن جيل بلا أساتذة.

ياتي مشهد حلاقة ذهنه بعد أن كا قد ترك لحيته تطول، فطول اللحية كما يرى يعبر عن طول الآلام مع طول العمر وبالفعل بعد حلاقتها أشرق وجهه. 

لن أدخل في تفاصيل علاقته بأسماء هامة ذكرها فالمهم هو الصورة الفنية مع ما يقول وعلي من يريد أن يعرف رأيه في بعض الأسماء المذكورة فليشاهد الفيلم. 

ياتي المزج الجميل كثيرا في الفليم بين الصورة والحديث ففي مشهد تطهو فيه ابنته سامية الطعام  بينما يملأ الغرفة صوت من التليفزيون عن افتتاح قناة السويس الجديدة. 

وهكذا هو لا يريد إلا أبسط الأشياء وليس مهما ما حوله فلا يعلق عليه أكثر من تعليقات سابقة أن ثور يوليو كانت وهما وكذلك كان عبد الناصر رغم أنه كان وهما ملأ أرواح الناس بالأمل. يكتفي هو بكلمة وهم ويترك لنا الفهم من وجهه ومن ايقاع الكلام الخافت. 

ويتحدث عن ان ابنته سامية وما ذكرته من قبل من أنها كانت تكتب الشعر من وراءه وكان يود أن يمنعها واختها ليس لأنها انثى لكن أن تقابل نفس مصيره. التضاد بين ما نسمع عن المشروع وحياته يوحي لنا بانه خارج هذا العالم لا يريد منه إلا مايقيم أوده من طعام . 

تضاد آخر بين مشهد لقاء شهير في برنامج للمذيعة ليلي رستم يظهر فيه طه حسين وصفوة من الكتاب مثل يوسف السباعي ونجيب محفوظ وأنيس منصور وكامل زهيري وثروت أباظة وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمود أمين العالم يتحدثون بالعربية الفصحي ،  بينما هو كان يتحدث بالفطرة فهو أصلا بائع متجول وحين عمل في القاهرة سكرتيرا للجنة النثر التي فيها مهدي علام ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ومحمد عبد الحليم عبد الله، كان يتصل بيهم ينبههم إلي الاجتماع قائلا" ماتنساش تيجي"  مما جعل مهدي علام  يقول للسباعي "إيه دا اللي بيتصل بينا يقول ماتنساش تيجي" . فنقلوه إلى الأرشيف . 

يحكي بفطرته أن السباعي "عمل هليلة للتقرب لعبد الناصر فعزم من كل كتاب العالم اتنين تلاتة في اجتماع منظمة تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية عام 1957  " ويواكب ذلك صور للحاضرين أو الإعلان عن اللقاء. يستمر بطريقته هو يضحك قائلا" كان  فيه واقعة متلتلة بين الصين وروسيا فدول خطبوا ودول خطبوا فالشيوعيين المصريين كانوا في كرب فلويس عوض الشيوعي - فى رأيه - طلب منع أن يقابله للعمل في الأهرام حين دعاه حسنين هيكل لذلك.  حين قابله لويس عوض سأله أنت القائل أنكم جيل بلا أساتذة؟ فقال "نعم وخلاص " فلم يعمل في الأهرام . 

كيف حين نشر له محمد عبد الحليم عبد الله قصته "الكرة ورأس الرجل" في مجلة القصة نشر في العدد التالي قصة قصيرة علي طريقة حافظ رجب نفسه وكذلك فعل نجيب محفوظ. لعله يقصد " تحت المظلة" ولما سألته المخرجة ما الكتابة الجديدة قال تفكيك اللغة لتصبح صورا.  يذكر بعض من هاجموه مثل  فاروق منيب الذي كتب مقالا عنوانه "المغرور والموهوم"  بينما قال يحي حقي قال اتركوه لقدره . كيف سمع صوتا من الجدران فذهب إلى مسجد السيدة زينب وأصابه انحناء لا يستطيع المشي، لكن الشيوخ أطعموه فمشي سليما وعرف الإيمان هو الذي كان من قبل لايعرفه لأن كل ما حوله ضد ذلك. ترك المسجد ومشي إلى محطة مصر ورجع إلى الإسكندرية. في كل ذلك تتوالي الصور . مشهد لزيارة حافظ في بيته من الكاتبين خالد حجازي وأحمد عبد الجبار الشابين  في التسعينيات وكيف حين رأي أحمد عبد الجبار حالة حافظ أدرك أن الاخلاص للكتابة فقط كما يقول حافظ ينتهي هذه النهاية وصار يقف في المنتصف. في حوار بعد هذا اللقاء بأكثر من عشرين سنة يسأله أحمد عبد الجبار الذي يظهر في الفيلم محاورا له لماذ لم تحضر الندوة التي أعددناها لك في التسعينات. كان ذلك عام 1995 - ولماذا لا تخبرنا عن طريق الكتابة الجديدة ، وحافظ دائما يقول أنه منقطع عن الكتابة. وحين يسأله عن عام الانقطاع يقول بعد تفكير 1996 . 

يظل الحورا يناقش معه أحمد عبد الجبار قصصه الأولى التي كتبها فى سن السادسة عشر عن أميركا واضطهاد السود هناك ويقول رغم أنها لم تكن أفضل القصص لحافظ رجب لكن قرأها. 

يوافق حافظ أن قصصه عن القاهرة والإسكندرية هي الاجمل فهم الأهل الحقيقيين ويستمر النقاش. حين يسأله لماذا  تُقاطع الأجيال يقول ضاحكا "مزاج" ولقطات الكلوز على وجهه وهو يفكر في الإجابة مذهلة. يقدم له أحمد عبد الجبار شرائط تسجيل الندوة التي لم يحضرها في 29/12 /1995 ونظرات عيني السائل  مثيرة للتوقع أو الدهشة القديمة تتجسد. يقول حافظ "كله رايح". 

يقول أحمد  أنه لا شيئ يروح فبعد أكثر من عشرين سنة قرأ له ويسأله "طيب ماذا فعلت في كل هذا الوقت الطويل بعد أن راح كل شيئ وهل هذا قدر ربنا ان تتوقف عن الكتابة وتقعد في هذه العزلة" . 

لحظات صمت طويلة ثم يبتسم حافظ ويقول شيئ أُعاقب عليه. يسأله لماذا الشعور بالذنب .هل الكتابة ذنب؟ يقول "مش الكتابة. 

الكتابة تكفير عن الذنب" يسأله ماهو الذنب فيرفض ويشير بيده لا. نسمع شذرات من قصص حافظ رجب بأن كل شيئ ماعدا الحياة من الصغر للكبر حتى الزواج والانجاب، هو وهم. ثم مقاطع أخري بينما حافظ رجب نائم يتنفس واللقطات مع الشارع الخارجي وما حوله من مصانع أو ورش او قطار السكة الحديد . 

تأتي من شريطي التسجيل الذين احتفظ بهما أحمد لأكثر من عشرين سنة والتي سجلهما وقتها الصحفي خالد حجازي مقاطع من الندوة التي لم يحضرها وتقديمه. من هو حتى أحيل الي المعاش من وظيفته في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

يسمع هو الشرائط وتأتي وقائع الندوة وسؤال للشاعر علاء خالد هل الرؤية الوجودية التى شملت أعماله هي التي أدت به إلى العزلة أم أن هناك أشياء أخرى كانت السبب. ثم قطع بمشاهد وهو يأكل بعيدا عما يقال. 

لا شي يعنيه الآن رغم اعتراف الحاضرين بتأثيره هو وجيله فيهم هم كتاب التسعينات. لقد مارس كتاباته وشعر أنه فعل ماعليه. يتم القطع عليه بعد الطعام جالسا فوق السرير ليعلق "أنا مع كل هزيمة من الأهل أو من العمل كنت أرجع اكتب وليس لديْ إجابة الآن عن لماذا انقطعت عن الكتابة" ومن كلماته وكتاباته الأخيرة التي جاءت في الفيلم " كنت صريحا مع نفسي مندهشا من ظروف الناس. 

إيقاع رعب قيّد عيوني عن الأمواج سقط اسمي مني أثناء عبوري جسر الزحام أحمل في صرة ملابسي كتابا وأحلم بدخول الأبواب لكنني في منتهي الألم بصدق لا أعرف كيف أعيد حرارة التوهج الغارب".

توفي محد حافظ رجب بعد في 13 فبراير 1021 بعد وفاة ابنته سامية بشهرين وتأتي صور لأعماله عيش وملح - مخلوقات براد الشاي المغلي- الكرة ورأس الرجل- غرباء - اشتعال الرأس الميت وغيرها من الكتب الاجنبية التي ترجمت فيها أعماله ثم كتاب" مقاطع من جولة ميم المملة" التي أُخذ منه عنوان الفليم "جولة ميم المملة". 

وتكون قطعت رحلة في الفضاء بلا ملل ورأيت أزمنة وليس زمنا واحدا أمامك في الذكريات والصور. وإذا سألت هل حدث ذلك مع غير حافظ رجب فالإجابة دائما يحدث، لكن حافظ  ذهب إليه مبكرا فمن بناء قصصه التي اخترق بها الفضاء الصامت تعرف أنه سيبتعد ويعيش بين السحب في السماء.  فيلم وثائقي لهند بكر يستحق التقدير الكبير والاحتفاء . فيه تتوازي الصور أو تتناقض مع الحديث أو تضيف إليه معاني إنسانية رائعة.