هالة الحلفاوي تكتب: نجيب محفوظ في ذكراه.. حالة إبداعية لا تتكرر

ذات مصر

يبقى اسم الأديب العالمي نجيب محفوظ الذي احتفلنا مؤخرًا بالذكرى 18 لرحيله، أشهر روائي عربي، إذ امتدت رحلته مع الكتابة والأدب لأكثر من 70 عامًا، قدم خلالها العديد من الأعمال الروائية، التي نجحت في تشريح الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لمصر خلال القرن الماضي، وعكست بوضوح بعض مفاتيح الشخصية المصرية بأنواعها المختلفة.

 

ونجح محفوظ في تتويج مسيرته الرائعة بالحصول على جائزة نوبل في الأدب عام 1988، وهي أرفع جائزة عالمية ينالها كاتب عربي، ورغم ما صاحبها من صخب وجدل آنذاك، إلا أنها تبقى الجائزة الأشهر التي تداعب خيال كل كاتب ومبدع، ـ مع أنها لم تراود محفوظ يومًا؟! ـ إلا أن السؤال: هل أضافت نوبل قيمة إليه، أم أنه هو من أضاف لها القيمة في وطننا العربي؟.
في رأيي أن محفوظ هو من منح هذه الجائزة قيمتها عربيًّا، لأن القاريء العربي لم يكن يهتم كثيرًا من قبل بتتبع أخبار جائزة نوبل للآداب، حتى منحت لأمير الرواية العربية، ليس لأنه فقط أهم روائي عربي، بل هو أيضًا رائد الرواية العربية الحديثة.

ويحضرني هنا، ما قاله الأديب الكبير توفيق الحكيم من أن "الرواية العربية قبل محفوظ كانت عبارة عن شارع قفر، يضم 5 بيوت هي بالعدد: سارة للعقاد، وزينب لهيكل وإبراهيم الكاتب للمازني، والأيام للعميد (طه حسين)، وعودة الروح للحكيم، إلى أن جاء محفوظ، وأقام الأسس، وعمَّر الشارع وبنى فيه بيوتًا كتيرة".

من هنا، يكتسب محفوظ قيمته وقامته الرفيعة، باعتباره الذاكرة الحية للأنماط الأدبية والمذاهب الفكرية المصرية، نجد في ثنايا رواياته ـ التي هي أوسع من أن تعد مجرد روايات ـ الإخواني، والعلماني، والليبرالي، والعدمي، والملحد، والعسكر، كما نجد الموظف، والعامل، ورجل الدين، ورجل الأعمال، ابن الحارة الشعبية والمنحرفة، وست البيت الأصيلة، والشكاك والمتيقن .
نجد الناس على اختلاف مشاربهم، وأخلاقهم، وطبقاتهم، وصفاتهم، لأن الإنسان دائمًا واحد، أما الاختلاف فهو في العصر، والظرف، ففي روايات محفوظ نجد المنطق، والفلسفة، وعلم النفس، والرمزية والواقعية، والعفة والخسة، والطهر والدنس.. نجد كل هذا في لغته الوسطى الفصيحة والبسيطة، وأفكاره السلسة التي تنساب مع قوة تشبيهاته ودقته، وروعة وصفه.. انكون بالتالي أمام سلسلة روايات لم ولن تتكرر في تاريخ الرواية العربية، ولم يظهر إلى الآن ما يضاهيها في القوة والتنوع.

وكما برع محفوظ كقاص وروائي، لمع كسيناريست، ولكن قبل أن أتحدث عن السيناريست نجيب محفوظ ومسيرته الحافلة في السينما المصرية، أتساءل: هل ساعدت السينما محفوظ بشكل ما في الوصول إلى نوبل؟ 
وأجيب: أعتقد أن السينما العربية والمصرية، كانت في ذلك الوقت لا تمتلك المستوى الذي يخرجهما عن الفضاء المحلي، وبالتالي فشهرته كسيناريست ساعدته محليًا فقط، ووسعت تأثيره كأديب في مصر والوطن العربي، أما عالميًا فبالطبع لا.. ويمكن القول إن السينما أسهمت من خلال هذا الكم الهائل من الأفلام في شهرة محفوظ المحلية، إذ مكنه تحويل رواياته إلى أفلام سينمائية إلى انتشاره بين فئة لم تتمكن من قراءة أعماله، أو لا تبدي اهتمامًا بالقراءة عمومًا.

فمن من لا يعرف "الثلاثية" الشهيرة أو "اللص والكلاب" و"ثرثرة فوق النيل" و"ميرامار" وغيرها من الأعمال السينمائية، التي شغلت مساحة واسعة من ذاكرة السينما المصرية والعريية، فللسينما مساحة كبيرة من الجمهور، وهو استفاد من السينما، كما أنها ساعدته نفسيًا على التفرغ للإبداع الأدبي.

لذا لا ينكر منصفٌ أن نجيب محفوظ خلق حالة إبداعية ـ ربما لا تتكرر بسهولة ـ خاصة في الوسط الثقافي المصري والعربي عموما، نجح من خلال أعماله المغرقة في المحلية بكل وقائعها وإفرازاتها، في إيجاد مساحة إبداعية إنسانية عالمية استحقت التقدير من خلال "نوبل" وقبلها غرست التوقير المستحق لأعماله، وهذا ما لم ينجح فيه كثيرون.