فراج إسماعيل يكتب: إعصار وادي السليكون

الكاتب الصحفي فراج
الكاتب الصحفي فراج إسماعيل

سمعت تعبير "الاعصار المالي" لأول مرة من باني نهضة ماليزيا د.مهاتير محمد عندما التقيته عام 1998 في مكتبه بمقر الحكومة في كوالالمبور.
كانت الأزمة المالية التي ضربت النمور الآسيوية قد اجتاحت بلاده بعنف رغم أن انتاجها الصناعي 90% من حجم انتاجها المحلي وصادراتها للخارج. 
قبل تولي مهاتير لرئاسة الحكومة.. كانت ماليزيا مجرد دولة زراعية، يعيش 52% من سكانها تحت خط الفقر.
بفضله تحققت قفزة صناعية هائلة جعلت 80% من السيارات التي تجري في شوارع بلاده، ماليزية المنشأ، وهبطت بنسبة الفقراء إلى 5% فقط.
بدا كل شيء كأنه ينهار مع أزمة دول النمور المالية في جنوب شرق آسيا بدءا من يوليو 1997.
بينما نائبه ذو الشعبية الجارفة ووزير المالية أنور ابراهيم  يحاول لملمة الخيوط عبر المؤسسات المالية في الولايات المتحدة أو بالأحرى صندوق النقد الدولي، باعتبار واشنطن قاعدة "العولمة".. 
يتحول الوضع إلى صراع سياسي بين مهاتير وأنور، كاد يطيح بالاستقرار كاملا.
رأيت نذر ذلك عندما زرت بيت أنور إبراهيم وقابلت زوجته د.عزيزة إسماعيل التي تحولت في غيبة زوجها في السجن إلى زعيمة سياسية معارضة، ترأست حزب، ثم قفزت في العودة الثانية لمهاتير  - خصم زوجها - لرئاسة الحكومة إلى نائبة له، وقد تجاوز عمره الثانية بعد التسعين.
مهاتير لا يطيق سماع كلمة "العولمة".. وعارض بعنف خطة أنور ابراهيم التي اقتدى فيها، بجاراته تايلند وسنغافورة وكوريا الجنوبية، حيث ضخ صندوق النقد 50 مليار دولار للمساعدة لكي لا تتحول أزمة النمور المالية إلى أزمة عالمية.
الداهية مهاتير محمد كان له رأي آخر. قال لي وأسئلتي إليه ناقمة على إقالة خبير اقتصادي ومالي كبير في وزن أنور إبراهيم، وحبسه بتهم أخلاقية غير لائقة "كيف تكون واشنطن هي صاحبة المشكلة وحلها؟!"..
المضاربات العقارية والأموال الساخنة قصيرة الأجل بفوائد كبيرة وحجم الائتمان الكبير مع ارتفاع الودائع وفاتورة الديون الخارجية، بمثابة شبح، سيعكس للمراقب اقتصادا قويا واحتياطيا آمنا، لكنه سرعان ما يهبط بالعملات المحلية بمجرد رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الفائدة لمواجهة التضخم.
سيتعاظم الدولار بسبب هجرة الأموال الساخنة والاستثمارات إليه، ولن يجدي رفع الفائدة المحلية، لأن البنوك ستواجه مشكلة سيولة في دفعها للمودعين لإنعدام الفارق بين الفائدة المرتفعة، وفائدة القروض طويلة الأجل والأصول التي استثمرت فيها عندما كانت الفائدة منخفضة. 
حتما ستتأزم العملات المحلية، وقد حدث ذلك للبات التايلندي الذي كان أول من ضربته الأزمة المالية فافقدته توازنه بنسبة كارثية مقابل الدولار.
حدثني د.مهاتير أنه أصدر قرارا بمنع خروج عملة ماليزيا "الرينجنت"، وذلك ليس ضد الاقتصاد الحر، وإنما للمحافظة عليه. بدأ الاقتصاد يتعافى بالفعل عقب تراجعه عن غلطة اكتناز أموال شبحية أو ساخنة قصيرة الأجل سرعان ما تهاجر إلى من يعطيها أكثر.
وكان في رأيه أن اتجاه واشنطن لتعظيم الدولار وتحويله إلى ديناصور يبتلع عملات العالم، يمكن أن يتحول إلى لعب بالنار يؤذيها نفسها، وستتدخل الدولة حينئذ لحماية مصارفها من الإفلاس.
كأن مهاتير نظر إلى أكثر من 30 سنة أمامه، أو كأنه قرأ الطالع.
الغزو الروسي لأوكرانيا أدى إلى تضخم لا نظير له وغلاء جنوني في أسعار السلع، وهبط بعملات الدول الصناعية والمستهلكة على السواء، فأعاد بنك الاحتياطي الفيدرالي وتيرة رفعه الفائدة في التسعينيات، ومن ثم هاجرت الأموال الساخنة والاستثمارات إلى عاصمة الدولار.
ولأن اللعب بالنار يحرق أصابع صاحبه، فوجئت الولايات المتحدة وأوروبا صباح الخميس الماضي بالسقوط المدوي لبنك وادي السيلكون في كاليفورنيا الذي يمول نصف شركات التكنولوجيا والشركات الناشئة والرعاية الصحية ومحافظ شركات الاستثمار، وتزاحم المودعون والمستثمرون لسحب ودائعهم، وكذلك فعلت شركات التأمين، مما جعل البنك على شفا الإفلاس، فتدخلت السلطات صباح الجمعة وأوقفت البنك وسلمته لمؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية التي وضعته تحت الحراسة القضائية. 
إعصار حذر مهاتير محمد منه  وأنه قد لا يقتصر على الولايات المتحدة، بل سيضرب كل من يدور مع ساقية العولمة الدولارية. 
بنك وادي السيلكون "سيلكون فالي" في المركز 16 من أكبر البنوك الأمريكية، تأسس عام 1983، ويمول ما يقرب من نصف شركات التقنية والرعاية الصحية المدعومة من رأس مال المخاطرة الأمريكي.
وحسب الايكونوميست البريطانية فإن إفراط البنك الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة أدى لذلك الانهيار. 
لا يرجح الخبراء أن تنتقل الأزمة إلى المصارف الأخرى ومناطق خارج الولايات المتحدة، لكن هناك مقدمات تسونامي كبير.
ما كنا نظنه "نظرية المؤامرة"
عندما حذر مهاتير محمد من السياسة النقدية الأمريكية، يبدو الآن واقعا. إيد مويا كبير محللي السوق في شركة أوندا
قال إن الجميع يعلمون أن حملة رفع أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي ستؤدي في النهاية إلى كسر شيء ما، والآن ها هي تؤدي إلى انهيار البنوك الصغيرة.
ما بعد إعصار وادي السيلكون في علم الغيب. ربنا يسلم.