عبد الخالق فاروق يكتب: انهيار البنوك والفساد في عالمنا العربي

ذات مصر

بعد انهيار بنك سيلكون فالى  SVB  فى الولايات المتحدة فى شهر مارس 2023 ومن بعده بنك " سيجنيتشر " ، Signature   ، ثم بلوغ واحد من أهم بنوك ألمانيا والعالم وهو بنك " دويتشه بنك " إلى تدهور فى قيمة أسهمه ، وأمتداد لهيب النار إلى واحد من أكبر بنوك العالم فى سويسرا وهو بنك " كريدي سويس " Credit Suisse    ، مما أجبر  البنك الفيدارالى والحكومة السويسرية والبنك السويسرى المنافس UBS إلى شراء والإستحواذ على هذا البنك أنقاذا لسمعة البنوك السويسرية جميعا التى عرف عنها منذ عقود طويلة أنها مخازن لأموال لصوص الشعوب . 

والحقيقة أن  هذا البنك كان بطلا خلال الشهور القليلة الأخيرة  وتحديدا منذ فبراير عام  2020 لفضيحة كبرى من فضائح الفساد وعمليات تهريب وغسل أموال لعشرات الآلاف من كبار الأثرياء ورجال الحكم والإدارة والسياسيين في كثير من دول العالم ، وخصوصا في البلدان النامية وفي عالمنا العربي والإسلامي  وكان بطلها بنك كريدى " سويس " .

فبعد فضيحة أوراق بنما Panama Papers  عام 2016 - والتي كشفت عشرات الآلاف من أسماء أصحاب الشركات الوهمية المنشأة فى أحد مكاتب المحاماة في دولة بنما في أمريكا الوسطى ، والتي تستخدم في عمليات التهرب الضريبي وغسل الأمولMoney Laundering  ، والتي شملت أسماء كبيرة في عالمنا العربي والإسلامي - جاءت فضيحة أوراق بارديزParadise Papers  عام 2017 ، ثم فضيحة أوراق باندوراPandora Papers  عام 2021 ، وبعدها جاءت فضيحة جديدة (أطلق عليها فضيحة البنك  السويسري الشهير "كريدي سويس " Credit Suisse) .  نتجت عن تسرب في بيانات البنك السويسري ، والتي شملت 18 ألف حساب مصرفي سري ، يخص حوالي 30 ألف شخص من أبرز الأثرياء من السياسيين ورجال الحكم والإدارة ، ورجال المال والأعمال ، وجنرالات الأمن والاستخبارات في أكثر من 120 بلدًا حول العالم - ثلثاها من الدول النامية والفقيرة ، وتحتوي هذه الحسابات المسربة حوالي 100 مليار دولار أمريكي ، والمثير للدهشة أن ثلثي هذه الحسابات المسربة كانت قد جرى فتحها بالبنك بعد عام 2000 ، بينما يرجع البعض الآخر إلى سنوات سابقة قد تمتد إلى عقد الأربعينات من القرن العشرين .

وقد نشرت التحقيقات الصحفية  الجريدة الألمانية البارزة " Süddeutsche Zeitung " ، وصحيفة NEW YORK TIMES  الأمريكية الشهيرة ،  وجريدة الجارديان البريطانية  THE Guardian بالتعاون مع 46 منظمة إخبارية حول العالم (1) متضمنة التقرير الذي أعدته جماعة صحفية تسمي نفسها " مشروع كشف الفساد والجريمة المنظمة Organized Crime and Corruption Reporting Project،وقد تبين أن جل هذه الحسابات المصرفية المسربة  من بنك " كريدي سويس "  كانت بدافع التهرب الضريبي  وعمليات غسل الأموال ، سواء لأفراد أو لجماعات الجريمة المنظمة والمافيا البلغارية وتجارة المخدرات والكوكايين ، مستفيدة مما يسمى قوانين سرية الحسابات المصرفية Banking Secrecy Laws ، الذي بدأته البنوك السويسرية منذ عام 1713 بقرار من المجلس الأعلي للبنوك في جنيف بحظر كشف حسابات عملائهم ، وقننه  البرلمان السويسري عام 1934 . ومنذ ذلك الحين أصبحت سويسرا أهم ملاذ آمن للتهرب المالي والضريبي ، وعمليات غسل الأموال ، وإخفاء أموال لصوص الشعوب  وناهبيها .

وتدير البنوك السويسرية ما يترواح بين 6.3 تريليون دولار إلى 7.9 تريليون دولار ، في صورة أصول وحسابات مصرفية لعملائها ، كثير منها يأتي من عمليات غسل أموال وتهرب ضريبي  وتجارة المخدرات وعصابات المافيا في كثير من دول العالم . 

وقد قدرت شبكة العدالة الضريبية The Tax Justice Network وهي منظمة مجتمع مدني عالمية - حجم الخسائر السنوية التي تكبدها اقتصاد العالم - وخصوصا الدول النامية والفقيرة بسبب التهرب الضريبي المصاحبة لعمليات تهريب وغسل الأموال والإيداعات المصرفية في سويسرا - بحوالي 21 مليار دولار ، وتحديدا في الدول التي لم توقع على اتفاقية تبادل المعلومات الضريبية (CRS ) Common Reporting Standard  (2) 

ومن أبرز الشخصيات التي وردت أسماؤها في هذا التقرير الخطير نجلا الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ، فقد تبين أن لديهما ستة حسابات مصرفية في هذا البنك وحده Credit Suisse ، افتتح أولها  علاء مبارك في عام 1993 ،  واستمر يتعامل به حتى عام 2010 ، وكان يحتوي علي 138 مليون جنيه إسترليني ، وافتتحا بعدها حسابات أخرى عام 2003 ، ، وكانت تحتوي على 196 مليون دولار . 

وكذلك كشف التقرير أن اللواء عمر سليمان مدير المخابرات العامة المصرية الذي استمر في منصبه هذا منذ عام 1993 حتى قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 ، وترقى في فبراير عام 2011  إلى منصب نائب الرئيس المصري حسني مبارك - كان لديه حساب سري يحتوي على 26.0 مليون فرنك سويسري ، كما تضمن التقرير بيانات عن حسابات مصرفية سرية في هذا البنك لعناصر من المخابرات العامة المصرية وبعض أعضاء أسرهم . 

ولا نعرف علي وجه الدقة هل هذا الحساب السري لمدير المخابرات العامة المصرية هو حساب وحيد ، أم هناك حسابات أخري في بنوك سويسرية وغير سويسرية  ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن ما تكشف لدينا بعد ثورة يناير عام 2011 عن دور هذا الرجل في تسهيل صفقة الغاز المصري المسمومة إلي الكيان الإسرائيلي عام 2005 ، وحماسه الشديد لتنفيذه  كان مدفوع الأجر بهذه المبالغ التي تكشف بعضها الآن ، وما زال هناك الكثير الذي لم تكشفه الأيام بعد ؟ 

كما شملت البيانات المسربة اسم الملياردير المقاول وعضو مجلس الشورى المصري وعضو لجنة السياسات العليا بالحزب " الوطني الحاكم " قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 ، المهندس هشام طلعت مصطفى ، الذي أدين عام 2009 بجريمة قتل صديقته الفنانة اللبنانية سوزان تميم ، ثم عاد وأفرج عنه الجنرال عبد الفتاح السيسي بعد توليه منصبه كرئيس للجمهورية عام 2014 ، مقابل تبرعه وأسرته بعشرات الملايين من الجنيهات لصالح " صندوق تحيا مصر " الذي يديره ويشرف عليه الجنرال السيسي نفسه .

وفي الأردن تكشف وجود حساب مصرفي سري في هذا البنك للملك عبد الله الثاني بقيمة 224 مليون دولار ، كما تبين أن الملك الأردني يمتلك ستة حسابات مصرفية سرية في هذا البنك السويسري وحده . 

أما مدير المخابرات العامة الأردنية اللواء سعد خير الله فقد فتح حسابه هذا عام 2003 بقيمة 21.6 مليون دولار ، وقد أغلق الحساب بعد أن توفي الرجل عام 2009 (3) .

وبالمثل جاء اسم وزير الدفاع  الجزائري الأسبق الجنرال خالد نزار الذي شغل منصبه لسنوات طويلة في الجزائر منذ عام 1993 حتى عام 2004 ، وقد وجد له حساب مصرفي بالبنك بقيمة 900 ألف يورو ، وقد ظل حسابه مفتوحا حتى عام 2013  حينما جرى اعتقاله في سويسرا بتهمة الاشتباه في ارتكابه جرائم حرب أثناء سنوات الحرب الأهلية في الجزائر ، أوما يطلق عليه في الجزائر(العشرية السوداء ) .

أما مدير المخابرات العسكرية الباكستانية " الجنرال إختيار عبد الرحمن خان " ، فقد تحكم  بتدفقات مالية تقدر بمئات الملايين من الدولارات خلال ما يسمى " حرب المجاهدين في أفغانستان " في عقد الثمانينات من القرن العشرين ، كما سجلت مئات الملايين من الدولارات بأسماء وحسابات أبنائه الثلاثة ( أكبر خان ، وهارون خان ، وغازي خان ) ، وكانت حركة بعض هذه الأموال تتم بتوقيع أبنائه الثلاثة . 

كما شملت البيانات المسربة من بنك كريدي سويس الشهير الديكتاتور النيجيري الأسبق " الجنرال ساني أباتشي " الذي سطا خلال ست سنوات من حكمه على حوالي خمسة مليارات دولار ، وقد وجد في أحد حساباته في بنك كريدي سويس حوالى 214.0 مليون دولار . 

أما الديكتاتور الفلبيني الشهير " فردينالد ماركوس " ، وزوجته " أميلدا ماركوس " -  واللذان حكما الفلبين لأكثر من عشرين عاما فكانا من أبرز عملاء هذا البنك ، حيث أودعا لديه حوالي عشرة مليارات دولار ، وكانا يستخدمان أسماء وهمية مثل William Sawnder   و Jan Ryan   (4)

وفي فنزويلا تبين وجود حسابات مصرفية سرية  لنائب وزير الطاقة ورئيس شركة البترول الوطنية المملوكة للدولة السيد Nervi Villa lobes  ، والذي فتحها عام 2011 ، ووجد في حسابه بالبنك حوالي 10.0 مليون دولار ، وقد أغلقه فى عام 2013 ، ومعه 25 حسابا لكبار المسئولين في الشركة الوطنية للبترول ، تحتوي هذه الحسابات على 270.0 مليون دولار . ويعترف السيد Daniel Thelesklaf  ،  المدير السابق لهيئة مكافحة غسل الأموال في سويسرا بأن البنوك السويسرية قد اعتادت تغطية هذه الأنشطة الإجرامية (5) .

وفي أوكرانيا ، فإن رئيس الوزراء الأسبق " بافلولارشينكا "- الذي شغل منصبه خلال الفترة من 1997 حتى 1998-قد فتح حسابا مصرفيا في بنك (كريدي سويس) بقيمة 3.6 مليون يورو ، وإن كانت منظمة الشفافية الدولية قد قدرت ثروته بأكثر من 200.0 مليون دولار سرقت كلها من الحكومة الأوكرانية ، والمثير أن الرجل قد أدين فى سويسرا عام 2000 ، وتنازل عن 50% من حساباته المصرفية ، كما حكم عليه أثناء إقامته في ولاية كاليفونيا بالولايات المتحدة عام 2006 بالسجن 9 سنوات بتهم الفساد . 

ويأتي بنك UBS السويسري في المرتبة الثانية بعد كريدي سويس من حيث إدارة مثل هذه العمليات القذرة ، وبرغم معرفة السلطات الأمريكية والبريطانية منذ سنوات بعيدة بطبيعة هذه الممارسات غير القانونية وغير الأخلاقية للبنوك السويسرية عموما ، وبنك كريدي سويس على وجه الخصوص ، ومعرفتها بدخائل تلك البنوك ، فإنها لم تتحرك ضدها إلا حينما تضررت مصالحها المباشرة . فقد تبين أن بنك كريدي سويس يقوم بإخفاء حسابات لمائة عميل أمريكي بهدف مساعدتهم في التهرب الضريبي ، ولهذا وقعت على هذا البنك غرامات متعددة  طوال الثلاثين عاما الماضية ،  بسبب انتهاكه لقرارات العقوبات الأمريكية ضد بعض البلدان مثل كإيران والسودان عام 2009  ، أو المساهمة في عمليات غسل أموال لعصابات تجارة الكوكايين في بلغاريا ، أو مساعدة بعض عملائه في التهرب الضريبي ، ففي عام 1995 حكمت محكمة في زيورخ على البنك برد مبلغ 500 مليون دولار كانت مسروقة من أموال الشعب في الفلبين (6) .

وفي عام 2014 وقعت على البنك غرامات قدرها 2.6 مليار دولار ، وأخيرا سدد البنك 475 مليون دولار للسلطات الأمريكية والبريطانية بعد تحقيقات عن عمليات سرقة أموال وتهرب ضريبي لبعض كبار المسئولين في موزمبيق ، وكذلك سدد غرامات لألمانيا وإيطاليا . 

وقد أجبرت السلطات الأمريكية البنوك السويسرية عام 2014 على التوقيع على ( الاتفاقية الدولية لتبادل المعلومات المصرفية ) ،والتي بُدئ  في تطبيقها عام 2018 . 

كما لدينا بنك سويسري آخر متهم في الكثير من الحالات بارتكاب نفس الجرائم ، وهو بنك UBS . 

وبالقدر الذى تتكشف فيه يوما بعد أخر وعاما بعد أخر فضائح وجرائم البنوك الغربية فى حق الشعوب المنهوبة والمسروقة ، بقدر ما تتساقط وتتكشف يوما بعد يوم حقائق النهب والفساد المستشري في القيادات المسئولة في البلدان النامية ، وخصوصا بلداننا العربية والإسلامية ، والتي تغيب عنها آليات الرقابة والمحاسبة الجادة ، كما تغيب عنها حريات الصحافة القادرة على كشف الانحرافات أولا بأول . 

هوامش ومصادر المعلومات

(1)كل المعلومات الواردة فى هذا التقرير مصدرها :https://www.theguardian.com/news/2022/feb/20/credit-suisse-secrets-leak-unmasks-criminals-fraudsters-corrupt-politicians

وكتب الموضوع المنشورة في موقع الجريدة بتاريخ الأحد 22 فبراير/شباط عام 2022 كل من : 

 David PeggKalyeena MakortoffMartin ChulovPaul Lewis and Luke Harding

وكذلك في جريدة نيويورك تايمز كل من By Jesse Drucker and Ben Hubbard

ومن موقع بلومبرجBloomberg الاقتصادي الشهير السيد Stefan Wermuth/ المنشور بتاريخ 20 فبراير /شباط2022 .

(2)https://www.theguardian.com/news/2022/feb/20/credit-suisse-secrets-leak-unmasks-criminals-fraudsters-corrupt-politicians

(3في جريدة نيويورك تايمز كل من By Jesse Drucker and Ben Hubbard ، ومن موقع بلومبرجBloomberg الاقتصادي الشهير السيد Stefan Wermuth/ المنشور بتاريخ 20 فبراير/شباط 2022 .

(4)Ibid 

(5)Ibid  جريدة نيويورك تايمز كل من By Jesse Drucker and Ben Hubbard ومن موقع بلومبرجBloomberg الاقتصادي الشهير السيد Stefan Wermuth/ المنشور بتاريخ 20 فبراير/شباط 2022 .

(6)https://www.theguardian.com/news/2022/feb/20/credit-suisse-secrets-leak-unmasks-criminals-fraudsters-corrupt-politicians .