علي الصاوي يكتب: من أين يأتي التغيير في مصر؟

الكاتب علي الصاوي
الكاتب علي الصاوي

مرّت مصر بأحداث جسام، ومخاض عسير بعد 25 يناير خرج منه مولود ثوري تأمّل فيه المصريون غد أفضل ووطن ينعمون فيه بالديمقراطية والمساواة، لكن سرعان ما تغيّر الحال عبر تقلّبات سياسية وتدافع إقليمي حاد الاستقطاب ومعقد التحالفات، لتبدأ مصر عصرا جديدا من التراجع ساد فيه نمط سياسي واحد صبغ بفلسفته مؤسسات الدولة كافة، فغابت التعدّدية السياسية والأحزاب المؤثرة وزادت حدّة التوتر السياسي والاستقطاب بين شرائح المجتمع المختلفة.

ومع كثرة تغيير الأنظمة والحكومات خلال تلك الفترة وحتى النظام الحالي، لم يلمس المواطن أي نجاح حقيقي انعكس على رفاهيته فضلا عن تأمين حاجاته الأساسية في الحياة بصفته ترمومتر نجاح أو فشل أداء الحكومة ! فما زال الفساد يتمدد يشكو منه الجميع، وتردى الحال من سيء إلى أسوأ، وتدهور التعليم وتاهت الأجيال بين فساد الحاضر ومجهول المستقبل! لكن بعيدا عن كل ذلك وما تمرّ به مصرنا الحبيبة من واقع مأزوم نراه جميعا بأعيننا.. دعونا ننظر للأمور من زاوية مختلفة ترتبط بالوطن ككيان باق إلى الأبد، وليس كنظام قد يرحل اليوم أو الغد.

هل مشكلة مصر الحقيقية في تغيير الأنظمة أو استبدال شخص بشخص آخر؟ أم أن السياسات العامة والقوانين التي تُعطّل أكثر مما تُنجز، والبيروقراطية العقيمة التي لا تناسب حاجة العصر، والمركزية التي تقتل روح الإنجاز وعدم وجود رؤية حقيقية من كل الإدارات الحاكمة لمستقبل البلاد، هي السبب؟ بالطبع كل هذه عوامل ساهمت في تأخر مصر وعمّقت الفجوة بينها وبين العالم الخارجي، بشكل جعلها في مؤخرة الدول ثقافة وتقدما.

لكن هل هذا فقط هو السبب، أم أن هناك حزمة أخرى من المشاكل كان لها دور كبير في هذا التأخر والتخلف؟


إن المشكلة في المناخ السياسي الملوث وانسداد أفقه في  استيعاب الآخر وفي مستوى وعي الجماهير، وغياب القدوة السياسية والاجتماعية.. المشكلة في التعليم السيئ وما يُفرزه من عقليات متأخرة عن لغة العصر وضعف التنسيق بين سياسية التعليم وسياسة التوظيف.

العيب في النمط الاستهلاكي الشره وما يفرزه من جشع مادي وسلوكيات أنانية، العيب في روح التسلية وقتل الوقت والإعلام الموجّه، الذي يُقلل من جرعات التفكير مقابل حشو العقول بمواد سامة، ليضيع المواطن في متاهات التعصب وفصله عن واقعه، والتحيّز لفصيل ضد آخر على حساب مصلحة الوطن.

المشكلة في الاقتصاد الشمولي، وما به من عراقيل تعيق أي تقدم ومسايرة للعصر.. العيب في تخلي الدولة عن دورها الرئيسي في التنمية والانتاج، وتركها لمافيا رؤوس الأموال من رجال أعمال وغيرهم، ممن تهدف سياستهم إلى تحقيق الربح الشخصي دون النظر للنفع العام العائد على الدولة.

العيب في الأميّة الأبجدية والمهنية والعقائدية التي يعاني منها نصف المجتمع.. العيب في المحسوبية وعدم تكافؤ الفرص واختلال معايير اختيار المسؤولين والقائمين على شؤون الدولة، الذين يتم اختيارهم على أساس شخصي لا على أساس موضوعي، يقدم المصلحة العامة على النفع الذاتي، فأهل الثقة والولاء للأنظمة مقدمون على أهل الكفاءة والفهم، تلك الآفات التي نخرت في عظم المجتمع وفي سلوكيات الناس؛ أدت إلى تهاوي بنيته الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، وتركت وراءها نتائج سيئة لم تلبِ حاجة المجتمع نحو التقدم والرقي.

فما هو الحل؟


الرجوع إلى نقطة الصفر هو الحل لإعادة بناء الوطن، من خلال حلّ المنظومة الأخلاقية الحالية وزرع قيم جديدة، عن طريق حملات تتولى تعبئتها وزارة التعليم والمنابر الإعلامية والدعوية المختلفة، وعدم نشر السلبيات في المجتمع كحوادث وجرائم وقضايا جنسية وأخبار الترند التافهة، فهذه الأخبار لها بالغ الأثر في تردي حال المجتمع وإشاعة مناخ اليأس والإحباط بين طبقاته.

تغليب ثقافة العمل على ثقافة الترفيه والتسلية، وأن يكون الضمير هو المرجع الأول في الرقابة على الأداء المهني؛ لأن عين القانون ليست رقيبا على كل إنسان؛ فحين يُعامل الفرد ضميره ويراقب ربه ويجعل مصلحة الوطن وفق أولوياته، لن يحتاج إلى توجيه من أحد، ولا خوف من أي عقاب لأنه تحلى بالرقابة الذاتية على نفسه.

ويحضرني في هذا الصدد ما رواه لي أحد أصدقائي كان في رحلة إلى اليابان، وأثناء عودته إلى بيته توقف قليلا أمام إحدى الوحدات التجارية، وكانت إشارة المرور تعطي علامة حمراء، ما يستوجب على المارة الوقوف وعدم الحركة، وكان هناك رجل ينتظر تغيير الإشارة ليعبر الطريق، فيقول: لكن الغريب أن الطريق كان خاليا تماما من السيارات، ولن يطول هذا الرجل أي ضرر أو مخالفة إن مرّ، ومع ذلك توقف وانتظر إذن الإشارة للمرور، وذاك مرده إلى ثقافة المراقبة التي تشبعت بها نفسه وتربى عليها، لذلك التزم النظام وحده بلا خوف من رقيب أو حسيب.

الشفافية في الخطابات الرسمية، ومصارحة الجماهير بما يتم من إنجازات، وفق أرقام صحيحة غير مضللة للرأي للعام، حتى لو كانت أرقاما غير طيبة، كي يعلم الجميع مواضع القصور والثغرات الواجب تسديدها ورصد الأخطاء ومعالجتها. أيضا يجب نشر النتائج الإيجابية التي ساهمت في إحراز أى تقدم، حتى يعلم المواطن أن ما تم بذله من مجهود كان له صدى حقيقي، وأثر على تحسين الاقتصاد والمجتمع، مما يزيد من شغفه لتحقيق المزيد من الجهد ومضاعفة الإنتاج.

لا بد من وجود مشروع قومي وحضاري يلتف حوله الناس، ورسم خريطـة واضحة له، تتحدد فيها الأولويات والأهداف التي يجب الوصول إليها، ووضع جدول زمني لإنجازها، مثلا خلال عشر سنوات، ويكون على رأس الأجندة تطوير التعليم، والتركيز على زيادة الأبحاث العلمية، وتفعيل نتائجها على أرض الواقع، ورصد ميزانية كبيرة لها تلبي احتياجات الباحثين، وإرسال بعثات للخارج في شتى المجالات لاكتساب الخبرة من النماذج الغربية الناجحة وتطبيقها، وتهيئة الروافع اللازمة لاستثمار الأفكار البناءه.

ففي سنغافورة تقوم الحكومة بتخصيص ميزانية للمنح الخارجية، فتقوم بإرسال طلابها لبعض الجامعات العالمية، مع إلزام الطالب بعد عودته بأن يعمل في القطاع العام مدة لا تقل عن سنتين مقابل كل سنة دراسية، لنقل ما تعلمه في تلك الجامعات، لذلك فهي من أولى الدول الرائدة في النظم التعلمية الحديثة، القائمة تحت شعار "تعليم أقل.. تعلُّم أكثر"؛ الذي يقلل من حجم محتوى المواد الدراسية، مقابل زيادة مساحة التفكير والإبداع لتنمية مهارات الطلاب العقلية والأخلاقية، بعكس الحشو والتعليب الذي تتبعه نظم التعليم في بلادنا.


فمن الاهتمام بالتعليم وإصلاح حال المعلّم بدأت نهضة سنغافورة نحو التقدم، وهذا ما أكده رئيس وزراء سنغافورة "لي كوان يو"، حين قال: "اصنعوا الإنسان قبل كل شيء، فالدول تبدأ بالتعليم، وهذا ما بدأت به في دولتي الفقيرة جدا، فبنيتُ المدارس والجامعات، وأرسلت الشباب إلي الخارج، ومن ثم استفدنا من دراستهم لتطوير الدخل السنغافوري". لذلك، لا عجب حين تُشيّع جنازته من جامعة سنغافورة الوطنية، تكليلا لجهوده في نهضة التعليم ببلد صغير لا تتجاوز مساحته 700 كيلومتر مربع.

فليس عيبا أن نقتدي بأي نموذج غربي ناجح من أجل بناء بلادنا، فقد قال رئيس وزراء ماليزيا "مهاتير محمد"، صاحب الفضل في النهضة التي وصلت بلاده إليها: "عندما أردنا الصلاة توجهنا صوب مكة، وعندما أردنا بناء بلادنا توجهنا صوب اليابان".. قالها ولم يخجل.

وأبعد من ذلك، هناك "دنج شاو بينج"، مهندس نهضة الصين وصاحب الفضل الأول لما هي عليه الآن. فعندما بدأ في التخطيط لتحديث الاقتصاد في الثمانينيات، ركب طائرته وذهب إلى سنغافورة وقابل "لي كوان"، وزار كل معالم التنمية هناك، ولما عاد إلى الصين أرسل 400 شخص من قادة حزبه الشيوعي لسنغافورة لأخذ الخبرة ونقلها الى الصين. وبدأت الصين أولى خطوات الإصلاح  نحو التقدم، فالاقتداء بنماذج ناجحة علامة نضج ووعي حقيقيين بمعرفة طريق التقدم.

لا بد من إصلاح التعليم الفني، وتأهيل الدارسين فيه لسوق العمل من خلال ربط المناهج باحتياجات السوق، فيخرج الطالب جاهزا للبدء في الإنتاج. وهذا قطاع مهم جدا في الدولة، فهو يساهم في تطوير الصناعة بالاعتماد على الكفاءات المحلية، دون الحاجة لخبراء من الغرب، إضافة إلى قدرة الدولة على امتلاك قاعدة إنتاجية قوية، مما يعزز مكانتها التنافسية في ريادة التصنيع والتصدير.

ويكفي أن نعرف أن نسبة 80 في المئة من التعليم في ألمانيا ينحصر في التعليم الفني. لذلك، لا عجب أن تكون هي قلعة الصناعة الأولى في العالم، فحين تُوضع خطة وفق جدول زمني معين في تحقيق النتائج، ستكون حافزا كبيرا جدا، وشحذ طاقات الجماهير للعمل الجاد المتواصل، للنهوض بالدولة من قاع الأزمات إلى منافسة الكبار.

لا بد من وجود نظام محاسبي قائم على الثواب والعقاب للقضاء على بؤر الفساد، ومحاسبة كل من تسوّل له نفسه العبث بمقدرات الدولة للوصول إلى النهضة الشاملة. ففي عام 2000 سأل صحفي تركي "رجب طيب أردوغان" عندما تولى حزبه إدارة البلاد، فقال له: لو كان في بيتك حريق ومعك جرّة من الماء مثقوبة، كيف تطفئ الحريق؟ يقصد بذلك أن دخل الدولة ليس كافيا لسداد فوائد الديون فكيف بالديون نفسها؟

فرد عليه أردوغان قائلا: "لن أعالج ثقوب الجرّة ولكن سأقطع اليد التي كانت تثقبها"، وبدأ في محاربة الفساد بالفعل، وأنشأ هيئة الرقابة المالية البنكية "BDDK"، وكانت تخضع له بشكل مباشر، ونجح في القضاء على الفساد، بعدما أخضع جميع الفاسدين للمحاسبة واسترد في أول جولة سبعة مليارات دولار نقدا من رجال الاعمال المتهربين من الضرائب، والمحتكرين للسوق التركي والمتلاعبين بالحسابات البنكية.
وفي جنوب أفريقيا، قرر حزب المؤتمر الحاكم عزل الرئيس "جاكو زوما" من منصبه في خلال 48 ساعة، بعدما جدد شقته الخاصة في "ناكندلا" بمبلغ 15 مليون دولار من أموال دافعي الضرائب، بالإضافة إلى قضايا فساد أخرى تتعلق بدعم شركات مقربة منه.

وفي كوريا الجنوبية تم الحكم على رئيستها "بارك كون هي" بالسجن لـ24 عاما بتهمة الفساد، بعد أن أجبرت شركات على التبرع بمبلغ 72 مليون دولار لصالح مؤسسة تسيطر عليها صديقتها المقربة "شوى سون سيل".. هكذا تكون الرقابة والمحاسبة؛ فلا أحد فوق مستوى الحساب والعقاب إن تبيّن فساده، وقبل كل هذا يجب بناء الإنسان نفسه؛ لأنه القيمة الأولى في نجاح أي مشروع اقتصادي، من خلال تعبئته بالطاقة الاجتماعية والأخلاقية في مشروع تحركه إدارة حضارية.

يقول جمال حمدان في كتابه الماتع "شخصية مصر": "إن من أخطر عيوب مصر أنها تسمح للرجل العادي المتوسط، بل للرجل الصغير بأكثر مما ينبغي، وتفسح له مكانا أكبر مما يستحق، الأمر الذي يؤدى إلى الركود والتخلف، وأحيانا للعجز والفشل والإحباط. ففي حين يتسع صدر مصر برحابة للرجل الصغير إلى القميء، فإنها على العكس، تضيق أشد الضيق بالرجل الممتاز، فشرط النجاح والبقاء في مصر أن تكون إتباعيا لا ابتداعيا، تابعا لا رائدا، محافظا لا ثوريا، تقليديا لا مخالفا، ومواليا لا معارضا. وهكذا، بينما يتكاثر الأقزام على رأسها ويقفزون على كتفها، تتعثر أقدامها بين الأمم".

فحين يتصدر المشهد أصحاب الكُساح الفكري وأنصاف الموهوبين، فلا تتعجب من وجود التابع في القيادة وتقدم الأصاغر على الأفاضل وتفوق الجاهل على العالم. فكل هذه معايير فشل الدول النامية وترسيخ الفساد فيها، وجعلها في مؤخرة الأمم في كل شيء. وهذا ما يئن منه الوطن منذ سنوات ولا أحد يشعر بألمه، ولن يتعافى الوطن إلا بعد أن يتم تلقيحه بجرعات العلم والمعرفة، فأضيئوا العقول بنور العلم أولا، ليسترد الوطن عافيته من جديد، فإنسان المستقبل هو ابن العلم، الذي يحقق النمو الاقتصادي والتقدم العلمي والقوة العسكرية، فالعلم كما يقول مالكوم اكس: "هو جواز السفر إلى المستقبل، فالمستقبل ملك لأولئك الذين يعدون له من اليوم". فالفرق بين الأمم يأتي من مقدار تحصيل العلوم وفهمها وخدمة المجتمعات بها.

إن المجتمعات التي لديها قابلية للتطوير، وتغيير أوضعها للأفضل، لا يمكن أن تعرقلها مثبطات ثقافية أو دينية أو سياسية أو تهددها جماعات مارقة، خاصة إذا كان لديها ماض مزدهر وتاريخ حافل بالانتصارات.. هي فقط تحتاج إلى وعي مجتمعي وإدارة حكيمة، لسياسة نفسها واسترجاع عزها، دون التعلل بأي عقبات أو مشكلات تحيط بها، فالإعاقة الحقيقية تكمن داخل الوطن وليس في الظروف المحيطة به، فقد قال المفكر الجزائري "مالك بن نبي" رحمه الله: "إن نهضة أي مجتمع تتم في نفس الظروف التي شهدت ميلاده.