فراج إسماعيل يكتب: كلاسيكو القاهرة والرياض

ذات مصر

اعتدنا على كلاسيكيات الكرة، وأشهرها ريال مدريد وبرشلونة، لكننا مررنا عربيا أيضا بكلاسيكيات في الدراما والفن، خصوصا في شهر رمضان.
الكلاسيكو الأشهر كان بين القاهرة ودمشق قبل الحرب الأهلية في سوريا.
ظلت القاهرة تتمسك بسطوتها ونفوذها على الدراما، بفضل قاعدة عريضة من الإمكانيات والفنانين وصناع الدراما، وخبرات مكتسبة ومتوارثة يمتد عمرها لأكثر من قرن.
ومع ذلك لم تحقق في كلاسيكياتها مع دمشق انتصارا ساحقا رغم محدودية الإمكانيات البشرية والفنية السورية.
المال الخليجي في العشرية الأولى من الألفية الثالثة، لعب دورا كبيرا في ذلك.
نعرف الحروب بالوكالة في منطقة الشرق الأوسط. منظمات وجماعات تقاتل بتوكيل داعم من عواصم إقليمية كبرى ومتنافسة.
ينطبق ذلك أيضا على كلاسيكو دمشق والقاهرة الدرامي. في الواقع كان كلاسيكو بالوكالة عن عواصم خليجية تدير المال والثراء الفاحش.
عندما كانت الإذاعة مهيمنة على الرأي العام في الخمسينات وحتى السبعينات، برزت محطة «صوت العرب» كقوة مصرية ناعمة تصنع توجهات العالم العربي بصوت مذيعها الأشهر أحمد سعيد وبعض تلاميذه.
يستيقظ العربي من المحيط إلى الخليج في الصباح الباكر على شعار صوت العرب «أمجاد يا عرب أمجاد».
وهكذا سائق التاكسي عندما يبدأ بحثه عن الرزق فجرا. بمجرد أن تحرك بي من مطار بغداد إلى الشارع المؤدي لقلب المدينة، كان راديو السيارة مضبوطا على «صوت العرب» وافتتاحية برامجه «أمجاد يا عرب أمجاد».
انتهت سطوة الإذاعة وسطوة نقل الخبر من القاهرة التي تصنعه إلى «الخليج». أخذت قناة «الجزيرة» مكانة صوت العرب، مع امتيازات إضافية توفرها الصورة التليفزيونية والنقل المباشر.
هذا لا يعني أن العقل المصري بعيد عن تلك النقلة الهائلة لقوة ناعمة لطالما تميزت بها القاهرة.
خبرات مصرية صنعت الجزيرة، وهي نفسها تقريبا التي صنعت منافستها «العربية» فيما بعد.
ظل المال الخليجي يراوده الحلم بإبعاد سطوة القاهرة واللهجة المصرية التي وحدت كل بيوت العرب في فهمها وسرعة التحدث بها.
رأينا ترويجا كبيرا لإحلال المذيعات اللبنانيات واللهجة اللبنانية، ثم تقديم مذيعين من دول المغرب العربي ولبنان وسوريا والعراق وفلسطين.
نجح التحول في مجال الإعلام إلى حد بعيد، ليس بفعل تفوق هؤلاء، وإنما لأن الأجيال الحديثة من المصريين العاملين فيه افتقدوا موهبة ومهارة أسلافهم.
بقيت قوة مصر الناعمة في الدراما عصية على زحزحتها، نظرا لغزارة الفنانين والإمكانيات الشخصية كالموهبة والدراسة.
قادت مؤسسات تليفزيونية غنية تلك العملية، ما بين الاستحواذ على تراث مصر السينمائي، وما بين الاستحواذ على الفنانين المصريين.
لكن ظلت العقدة موجودة متمثلة في عدم القدرة على تقديم البديل من غير المصريين. هناك حقا ممثلون أكفاء من الشوام، لكن العدد محدود.
وجدوا البديل في الدراما التركية المؤدلجة، وصناعة النجم التركي عربيا، ولعلنا نذكر الضجة التي أثيرت حول «مهند» وعينيه الزرقاوين، واستضافته وتقديمه للجماهير العربية.
الاختلافات السياسية أبعدت الدراما التركية، أما المكسيكية فلم تكن مناسبة للبيوت العربية. 
دمشق غابت، والعواصم المغاربية تقف دونها صعوبة لهجاتها المحلية على شعوب المشرق العربية.
انتهت كلاسيكيات الوكالة مع القاهرة بدعم خليجي، وظهر في رمضان هذا العام كلاسيكو بين الرياض كعاصمة جديدة تدخل مجال الفن والترفيه، والقاهرة.
دعم مالي هائل لمجال الترفيه وتقديم الرياض هوليوود جديدة للشرق بديلا عن القاهرة.
6 % من الإنفاق العام خُصص لهذا الجانب. حفلات أحياها مطربون مشاهير من العالم العربي، بينهم مصريون. مسرحيات انتقل ممثلوها من القاهرة لتقدم عروضها على مسارح الرياض، ناهيك عن دور السينما.
ثم جاءت أعمال رمضان الدرامية لتزيح الستار عن كلاسيكو العاصمتين.
مجموعة كبيرة من الأعمال الدرامية في فضائيات القاهرة، تقابلها مجموعة مدعومة بمال هيئة الترفيه السعودية.
ومع ذلك تغلبت اللهجة المصرية ولم يكن البديل للفنان المصري إلا الفنان المصري نفسه.
وكتبت المخرجة التونسية إيمان بن حسين، وهي مخرجة مميزة درست ذلك الفن في الغرب، تشيد بالدراما المصرية وتنوعها وكثرة نجومها.
إلا أن نشطاء وسائل التواصل انهالوا بالانتقادات والسخرية من بعض النجوم المصريين، مثل الهجمة التي تعرضت لها نجمة "الكبير أوي".
قيل إن هؤلاء ذباب الكتروني مجندون لنصرة عاصمة على أخرى في الكلاسيكو الناعم.
لم ينته رمضان بعد ولا نعرف نتيجة المباراة، لكننا ندرك أن الدراما الرمضانية قوة ناعمة تعكس نفوذ عاصمة وسطوتها واحتلالها مركز القيادة.
إنها السياسة التي لا نبرئ منها قول المطرب السعودي محمد عبده في حفلة بالرياض مؤخرا «إذا كانت مصر أم الدنيا، فالسعودية أبوها».
لا أظن أن شمس القاهرة في الفن تقترب من الأفول، وأن مال الرياض سينقل الثقل الفني إليها.
القاهرة التي صارت تصدر علوم الإسلام وفقهه وتفاسير القرآن الكريم وتلاوته وترتيله إلى الأرض التي جاء منها، تحتفظ بعبقرية متجددة لا تموت.