فراج إسماعيل يكتب: أمريكا والسعودية على خط الدولار

فراج إسماعيل
فراج إسماعيل

حصل فزع وجزع بمجرد الخبر الذي نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» حول وجود محادثات بين الرياض والصين لتسعير مبيعاتها النفطية لبكين باليوان الصيني بدلاً من الدولار.  
أثار الخبر حفيظة المتعاملين بالدولار، وارتفعت قيمة اليوان عقب نشره مباشرة. تابعت هذا الفزع في الفضائيات الأمريكية، وسمعت بعض المحللين يحذرون من كارثة لأن الصين تستورد 25% من النفط السعودي، وتسعير تلك الكمية الهائلة باليوان ستصعد بمركزه المالي صعودا فلكيا. 
السعودية كانت تحتل المركز الأول عالميا في صادرات النفط إلى الصين، ثم تأخرت خلف روسيا إلى المركز الثاني، بعد عرضها لأسعار أقل إثر حظر نفطها إلى أوروبا والمقاطعة الغربية بقيادة الولايات المتحدة عقابا على غزوها لأوكرانيا.
الرياض لن تمضي بعيدا في ذلك الخيار، ولن تجازف بهدم اتفاق "البترودولار" لأن واشنطن لا تقبل ذلك ولن تتساهل أو تستسلم له، وسيضع المملكة في مأزق كبير، ومغامرة غير محسوبة جيوسياسيا، نظرا لطبيعة المنطقة المتوترة ونزاعاتها وتحالفاتها العسكرية، ولأنه يعني العبث في النظام المالي الذي وضعته أمريكا؛ إضافة إلى أن اليوان الصيني ما زال ضعيفا مقابل تداول الدولار المرن، فمبيعات النفط العالمية التي تتم بالورقة الخضراء تصل إلى 80%.
السعودية لن تجازف بهدم اتفاق «البترودولار»، كما أن أمريكا دولة مصدرة للنفط، وذات دور فعال في التأثير على أسعاره، مما يضغط على الاقتصاد السعودي الريعي الذي يشكل النفط 70% من صادراته.
سر الفزع أن الذاكرة السياسية الأمريكية استعادت قصة زوال هيمنة الجنيه الإسترليني على الاحتياطيات النقدية العالمية بفعل الكساد الاقتصادي بين الحربين العالميتين، فأخذت بريطانيا العظمى التي لا تغيب عنها الشمس في الذبول ثم الانطفاء، ومن شبه تلك النهاية تخشى الولايات المتحدة.
هذا الخوف نتابعه هذه الأيام في التغطية المكثفة للبرامج الإخبارية والتوك شو في القنوات التليفزيونية الأمريكية، وفي تقارير صحفها.  
ورغم تفاؤل الصحفي والكاتب الأمريكي الشهير بتحليلاته في «الواشنطن بوست» و«التايم» ومحرر الطبعة الدولية لمجلة «نيوزويك» فريد زكريا في برنامجه GPS بقناة CNN بقوة الدولار، وتفوقه في تخطي مخططات البنوك المركزية الدولية، لا سيّما في الصين وروسيا، أو في حالة التسعير باليوان لنفط السعودية المبيع للصين، فإنه يعترف بأنه لم يعد مهيمنا إلا على 59% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية.
زكريا يقلل من أثار ذلك ومن نتائج الحرب على الدولار في البنوك المركزية في روسيا وآسيا، ومجموعة «بريكس» التي تشمل الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا، وتردد أن السعودية تريد الانضمام إليها.
في رأي فريد زكريا أن الدولار هو القوة العظمى الأخيرة المتبقية لأمريكا، ويمنحها هيمنة اقتصادية وسياسية لا مثيل لها، فتفرض عقوبات على الدول من جانب واحد، مما يحجب ذلك البلد من أجزاء كبيرة من الاقتصاد العالمي، ويمكن واشنطن من أن تنفق بحرية، على يقين من أن ديونها سيتم شراؤها من قبل بقية العالم.
الحديث عن إمكانية تنصل السعودية من اتفاق «البترودولار»، واستجابتها لبكين بخصوص تسعير صادراتها النفطية إليها باليوان، جعل جال لوفت، مدير معهد تحليل الأمن العالمي، والذي شارك في تأليف كتاب عن de-dollarization يعلق بأن «سوق النفط وبالتالي سوق السلع العالمية بأكملها، هي بوليصة التأمين الخاصة بوضع الدولار كعملة احتياطية، وإذا تم إخراج تلك الكتلة من الجدار، فسيبدأ الجدار في الانهيار». 
محلل آخر حذر من تسونامي يمتد لبقية دول منظمة «الأوبك» التي ستقتدي بالسعودية، كونها أكبر دولة منتجة للنفط في المنظمة، وسبق أن سارت على أسلوبها في التسعير عقب اتفاق «البترودولار».
في عام 1974، اتفقت إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون مع القيادة السعودية على تسعير نفطها بالدولار، فيما جرى تعريفه بمصطلح "البترودولار» عقب الارتفاع الهائل في سعر البرميل نتيجة حرب أكتوبر 1973.
بيانات العملات الرسمية لاحتياطيات النقد الأجنبي الصادرة عن صندوق النقد الدولي الذي تأسس على هامش اتفاقية «برايتون وودز» التي توجت الدولار على عرشه العالمي عام 1944، تؤكد أن انخفاض حصة الدولار في احتياطيات البنوك المركزية إلى 59% أو أقل، هو أكبر انخفاض خلال عقدين.
ومع ذلك تحتفظ الورقة الخضراء بقوتها في مواجهة الصين، المنافس الاقتصادي الرئيس، بفضل عوامل أخرى، أهمها التأثير السلبي للإدارة المركزية في بكين، والحساب المغلق لرأس المال، وعدم شفافية السوق، والانغلاق السياسي والإعلامي، مقابل التعددية والحريات الإعلامية والانفتاح والشفافية وآليات المراقبة والمحاسبة والمكاشفة في واشنطن.
هناك زيادة بالفعل في حصة الاحتياطيات المحتفظ بها باليوان، أو ما يسمى الرنمينبي الصيني؛ لكنه لا يمثل سوى ربع تحول البنوك المركزية عن هيمنة الدولار في السنوات الأخيرة، تحتفظ روسيا وحدها بثلث احتياطيات اليوان الصيني في العالم.
يستبعد خبراء المال قدرة الصين وروسيا على دحر الدولار أو زحزحته من مكانته.
المهدد الأقوى بعد السعودية كقوة نفطية، هو التحول إلى التعامل النقدي الرقمي، وضغوط التقنيات المالية الجديدة، كالسوق الآلية، وأنظمة إدارة السيولة الآلية، والعملات الرقمية أو المشفرة.
وحتى في هذا الجانب نكتشف تجهيز أمريكا لخط دفاع حصين من خلال مناقشات الكونجرس ومجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي نشر ورقة حول مناقشاته الداخلية بشأن العملات المشفرة والدولار الرقمي، لجعلها جدارا داعما لاستقرار الدولار وليس نسفه كما تخطط الدول المنافسة.
الواقع أن الحرب على الدولار تسبق حرب روسيا وأوكرانيا، وأن قيادة الولايات المتحدة للاتحاد الأوروبي و«الناتو» لعملية حصار موسكو اقتصاديا، ودعم أوكرانيا عسكريا، ليس بهدف حماية الشعب الأوكراني، وإنما الحؤول دون إسقاط هيمنة الدولار إذا ما انتصرت روسيا في حربها ضد أوكرانيا وظهيرها الأوروبي والأمريكي.
العقوبات الأمريكية التي فرضتها على روسيا بعد غزو أوكرانيا وتجميد جزء كبير من احتياطياتها النقدية بالدولار، جعل الصين تخشى المصير نفسه؛ خصوصا في ظل قضية تايوان.
وبسبب عسكرة أمريكا للدولار التي اعتبرها الكاتب فريد زكريا ميزة، احتدم صراع النفوذ النقدي الدولي. وهنا لا نعني الصين وروسيا فقط، بل نضيف مجموعة «بريكس» التي تخطط لإصدار عملة احتياطية نقدية موحدة لمقاومة هيمنة الدولار.
أيضا اتجهت روسيا والصين والهند لتسعير معاملاتها التجارية المشتركة بالروبل واليوان والروبية.
الحرب الاقتصادية لا تختلف عن الحرب العسكرية في نتائجها التدميرية، خصوصا مع حيازة أمريكا لقدرات وكفاءات تقنية ومادية هائلة.
الحرب على الدولار لن تكون ناعمة، ولا تقف عند حدود الاقتصاد، خصوصا إذا كانت الهزيمة فيها تعني انتهاء حقبة الولايات المتحدة كقوة عظمى، وقد تتلاشى على طريقة الاتحاد السوفييتي.
على خط نار الدولار تقف واشنطن متأهبة وجاهزة لدحر الغزوات النقدية، وتستند على أسطول من تحليلات دوائر المال التي ترى أن مزايا الدولار ستظل متجذرة في النظام النقدي العالمي، فلا يوجد بديل قوي في المدى المنظور، وأنه سيستمر الوسيلة الرئيسية للتبادل في التجارة الدولية، لأنه الأكثر سيولة وقبولا على نطاق واسع.
لكنها - أي واشنطن- لا تملك ترف سكب المزيد من اللبن، فلابد من أن توقف عسكرتها للدولار واستخدامه كسلاح في العقوبات الاقتصادية.
نهجها الحالي يجعل البائع على استعداد لقبول الدفع بعملة المشتري مهما تضاءلت قوتها.