ساعات الحسم في الخرطوم.. البرهان يعيد تشكيل المرحلة الانتقالية

ذات مصر

بعد أسابيع من تقارير شهود عيان في السودان عن عمليات تحشيد واسعة لقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، نائب رئيس مجلس السيادة حى منتصف أبريل الجاري، اندلعت مواجهات قتالية مباشرة بين هذه القوات وقوات الجيش السوداني النظامي في مدينة مروي تحديدًا قبل أن تتسع نطاق هذه المواجهات لتشمل كافة مراكز تجمع قوات الدعم السريع وسط تضارب واضح في بيانات الجانبين منذ صباح اليوم (السبت).

قوات الدعم السريع: بين الارتزاق وقيادة المرحلة الانتقالية

تمتع "حميدتي" بسيرة ذاتية مضطربة منذ انتقاله من محل مولده في شمال دارفور (1974) إلى ولاية جنوب دارفور وعلى مقربة من مدينة نيالا العاصمة، وانخراطه في التجارة عبر الحدود الليبية والمصرية بعد إكمال تعليمه الابتدائي في إحدى المدارس المصرية في الإقليم. 

وتمكن حميدتي من تكوين ما عرفت بقوات الدعم السريع في العام 2005-2006 حتى أعلن عن تكوينها رسميًا في العام 2013 وكانت قائمة بالأساس على عناصر ميليشيات الجنجويد وقامت بأدوار هامة لدى نظام الرئيس المخلوع عمر البشير في مواجهة جماعات المتمردين في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.  

وتأسس وجود قوات الدعم السريع في السودان قبل عزل البشير بسنوات قليلة إذ صدر قانون قوات الدعم السريع في 18 يناير 2017 بتنظيم عملها كقوات عسكرية وطنية عاملة تحت قيادة رئيس أركان الجيش السوداني "وتطبيق المبادئ العامة للقوات المسلحة السودانية".   

ولعبت قوات الدعم السريع دورًا مهمًا في احتواء ثورة ديسمبر 2018 وفترة ما بعد البشير، وحظي دورها في المرحلة الانتقالية الراهنة بتقدير كبير من قبل أطراف إقليمية ودولية رغم تاريخ الحركة في مجال الارتزاق عبر الحدود السودانية مع دول الجوار مثل ليبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى، ومساعي قيادتها تجاوز أدوار الدولة التقليدية في ظل انفلات سياسي وأمني وعسكري واجتماعي كبير في أطراف السودان ودول الجوار. 

وكان ملفتًا للغاية منذ عزل حكومة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك الدور الكبير الذي بدأت قيادة الدعم السريع في لعبه داخل السودان وسياساته الخارجية (توجه حميدتي لموسكو وأسمرا وأبو ظبي وانجامينا وغيرها في جولات منتظمة أثارت مخاوف مراقبين وقتها)؛ ومثلت الزيارتان الأخيرتان له إلى أبو ظبي وأسمرا قبل أسابيع خاتمة لهذه الجولات ومؤشرة إلى ارتباط الأزمة الراهنة في السودان بتوجهات حميدتي الخارجية.

كما حظي ملف "الإصلاح الأمني والعسكري"، ضمن مساعي استكمال المرحلة الانتقالية على نحو مفترض في ابريل الحالي، باستقطاب كبير داخل السودان مع اصطفاف واضح لقوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي خلف مواقف حميدتي وإعادة ظهور تيارات الإسلام السياسي وشبكة حلفاء حزب المؤتمر الوطني المنحل خلف مواقف رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان الذي تبنى بدوره خطابًا "ديمقراطيًا" وشموليًا ومنددًا بسياسات الإقصاء التي تشارك في الترويج لها المجلس المركزي وحميدتي على حد السواء.    

الصراع المفتوح

شهد منتصف أبريل الجاري إرهاصات حقيقية لوقوع مواجهات بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية مع تواصل استفزازات الأولى في إعادة الانتشار في مواقع تتماس مع مراكز هامة للثانية مثل مدينة مروي في الولاية الشمالية المتاخمة لحدود مصر الجنوبية، وروجت حسابات بوسائل التواصل الاجتماعي مؤيد للدعم السريع خطاب تحرير مطار مروي "من قوات الاحتلال المصرية"، رغم وجود اتفاقات وتفاهمات مؤسساتية بين القاهرة والخرطوم منذ وصول البرهان للسلطة على إجراء تدريبات ومناورات عسكرية متبادلة بهدف تعزيز قدرات السودان في ظل هذه الظروف الحساسة (وهو التعاون الذي عزز قدرات الجيش السوداني وتمكنه من استعادة مناطقه الحدودية مع إثيوبيا التي كانت قد فرضت هيمنة أمر واقع عليها وذلك للمرة الأولى منذ أكثر من قرن كامل). 

وبدا ان قوات الدعم قد استخفت ببيان الجيش السوداني الذي صدر فجر الخميس 13 أبريل ويحذر فيه من مغبة استمرار انتهاك هذه القوات لقواعد العمل المقررة والانتشار دون استئذان قيادة الجيش أو حتى التنسيق معها. 

وبالفعل تواترت صباح اليوم بيانات متناقضة من الجانبين بوقوع اشتباكات مفتوحة، مع ملاحظة جنوح بيانات قوات الدعم السريع إلى التطويل واستخدام لغة تستجدي تعاطف السودانيين وتبرر تحرك قوات الدعم السريع بمبررات واهية للغاية مثل تحرير مطار مروي ودعم التحول الديمقراطي وتخليص السودان من الحكم العسكري (الجيش السوداني)، بينما بدا أداء بيانات الجيش السوداني أكثر اقتضابًا وثقة في وجود تعاطف شعبي سوداني مع سياساته بخصوص توحيد صفوفه وتكوين جيش وطني وحيد (ووصل التعاطف إلى إعلان قبائل الرزيقات موئل حميدتي في بيان رسمي هام تعاطفها وتضامنها مع رؤية الجيش السوداني في تراجع مهم ودال توقيتًا عن تصريحات سابقة قبل ستة أشهر لناظر القبيلة محمود موسى مادبو بالتآزر مع حميدتي وحمايته).

الوضع الراهن

مع خفوت بيانات الدعم السريع وبروز المواقف العملياتية الناجحة التي يقوم بها الجيش السوداني ضد مراكز ومعسكرات قوات الدعم السريع في مختلف ولايات السودان يبدو أن حميدتي قد خسر المعركة بالفعل، بل إن بيان الحزب الشيوعي السوداني تعليقًا على الأزمة (وهو المعروف بمواقفه المعارضة لكل من مجلس السيادة والقوى الموقعة على الاتفاق الإطاري- المجلس المركزي على حد السواء) كشف عن تطابق في رؤية الحزب مع التحرك العسكري وضرورة قيام جيش وطني مهني واحد وتفكيك الميليشيات والقوى العسكرية غير النظامية في مؤسسة الجيش، وهو بيان ملفت ومؤشر إلى الخسارة السياسية الكبيرة التي تكبدتها قوات الدعم السريع، ويتوقع أن تتوالى بيانات مشابها حتى من داخل قوى "المجلس المركزي" في الساعات المقبلة. 

كما تواترت تقارير متضاربة بالقبض على حميدتي في عقر داره أو توجه كتيبة من لاقوات المسلحة السودانية بالفعل منذ الساعات الاولى من نشوب الأزمة للقبض عليه؛ وسرعان أن بادر حميدتي، بعد تقارير عن انقطاع الاتصالات معه، بالظهور على شاشة قناة الجزيرة بدا فيه باهتًا ومرتبكًا تمامًا معتبرًا أن ما حدث جولة واحدة فقط، وهو تحليل سطحي للغاية، او يبدو أنه سجل معه قبل ساعات من البث وفي ظل التغيرات الكبيرة على الأرض والبيانات الصادرة عن الجيش السوداني بهذا الخصوص وكذلك توسع قاعدة الدعم الشعبي لخطوة البرهان ضد غريمه حميدتي.

وتبقى مسألة خطيرة في الوضع الراهن وهي إشارة بيان للجيش السوداني إلى ضلوع قوى خارجية في دعم تحركات قوات الدعم السريع، ربما في إشارة مباشرة إلى دولتين خليجيتين كانتا على ارتباط عملياتي مع قوات الدعم السريع في اليمن، وكذلك في أنشطة مختلفة تتعلق بتهريب الذهب من دول جوار السودان ومن داخل الأخير نفسه، أو دعم أطراف في الأزمة الليبية لصالح هاتين الدولتين، أو في دائرة أوسع حماية مصالحهما في القرن الأفريقي عبر منع إقامة جيش سوداني موحد وقوي يمكنه حماية حدود البلاد وفرض سيطرته على كافة الأنشطة الاقتصادية داخل حدود السودان. 

ماذا بعد؟

رغم أنه ثمة مخاوف حقيقية من تمدد النزاع او استطالته لاحقًا فإن دفعة التأييد الشعبي ومن القوى السياسية الذي حظيت به تحركات البرهان والجيش السوداني ستقود حتمًا إلى عدة متغيرات مرتقبة في المشهد السوداني على النحو التالي:

  • مبادرة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بإطلاق خريطة طريق سياسية جديدة تمامًا تقوم في بندها الأول على توسيع المشاركة الشعبية والسياسية في وضع ملامح ما يتبقى من المرحلة الانتقالية، وربما تتضمن بنود المبادرة تقصير المدة الزمنية المتوقعة على أن تنتهي بانتخابات عامة تمثل إرادة اشلعب السوداني وتؤدي إلى تكوين مؤسسات الحكم بشكل فعال.
  • تبريد العلاقات مع دول إقليمية لعبت ادوارًا في استطالة أزمة السودان، أو ربما إعادة هيكلة هذه العلاقات على نحو يضمن احترام استقلال السودان وسيادته وقراراته وسياساته الخارجية.
  • تعميق التعاون المصري- السوداني بمستويات غير مسبوقة في الملفات الاقتصادية والسياسية والعسكرية مع ملاحظة مهمة وهي إرهاصات التقارب الأمريكي- المصري الواضح في الملف السوداني في المرحلة المقبلة وتدارك إدارة جو بايدن خطورة تهميش مصر في هذا الملف.
  • بروز تيار وطني سوداني أوسع يدفع بقوة نحو إنهاء المحرلة الانتقالية واستعادة الاستقرار في السودان كمرحلة ممهدة لمواجهة التحديات الخطيرة التي تواجهه وتزداد تعقيدًا بفعل الأزمة الاقتصادية والتدخل الضار من قبل دول جوار أو إقليمية في الشأن السوداني لتمرير أجندات لا تحظى بتأييد شعبي حقيقي (مثل بند علمانية الدولة الذي يتنافى مع صميم بنية المجتمع السوداني الصوفي- المتدين).
  • ربما تقدم القوات المسلحة السودانية على احتواء عناصر قوات الدعم السريع التي انشقت عن قيادة حميدتي وتمرير دمجها عبر برامج تدريبية ومشروطيات مهنية مرتفعة حتى عن تلك التي سبق أن طرحتها القوات السودانية عشية إطلاق ورشة الإصلاح الأمني والعسكري نهاية مارس الماضي.