هل تتضاد المعارضة مع الوطنية؟

ذات مصر


أثناء اشتداد سُعار المعارك على الجبهات في الحرب العالمية الثانية وتقدم قوات الحلفاء على قوات المحور، انشق أحد القادة الألمان المقرّبين من هتلر ولجأ إلى بريطانيا، فرحّبت به وأنزلوه منزلا حسنا وطلبت منه المخابرات البريطانية تحديد بعض الأهداف المهمة في ألمانيا لضربها، لكن القائد الألماني رفض وقال لهم: انفصلت عن هتلر وليس عن ألمانيا، فاللأوطان حرمة لا يبيعها إلا الأنذال.

فهل يستطيع أحد بعد هذا الموقف أن يُشكّك في وطنية القائد الألماني رغم انفصاله عن هتلر؟ بالطبع لا، فالأوطان ليست أشخاصا، والمعارضة ليست هدما للنظام أو انسلاخا عن الوطن، بل موقف يعبّر عن الرفض لوضع سياسي قائم أو رأى مختلف لا قصد من وراءه غير النصح والإرشاد، قد يرى فيه المعارض رؤية مغايرة للقائمين على الحُكم لا تتعارض مع رغبته في الإصلاح والدفع بعجلة الوطن للأمام، شريطة أن تتوفّر الإرادة لدى السلطة في قبول النقد، وتهيئة الظروف السياسية لسماع الآخر، وتلك أبسط قواعد الديمقراطية، أن يُعبّر المواطن عن رأيه بوعي فكري لا تشوبه انفعالات وجدانية أو سلوكيات تخريبية، وأن لا يستقوى بقوى خارجية، تحوله إلى بيّدق بيدها خدمة لمصالحها ضد مصالح وطنه، بدافع كراهية شخصا بعينه، أو الانتقام من فصيل حزبي يختلف معه، فليس من الحكمة أن أقطع شجرة عتيقة مثمرة من أجل مرارة ثمرة واحدة في أحد فروعها.

وقد ابتُليت بعض النخب المعارضة بحالة تسمم سياسي جراء الأموال التي تتدفق عليها من كل حدب وصوب وتحمل معها تبعيّة سياسية مطلقة، وأفق سياسي مُحدّد تعمل في إطاره، من شذّ عنه وخرج عن الدور المرسوم له غضبوا عليه ولعنوه وأعدوا له عذابا أليما، لذلك قالوا في أدبيات الأسوة بالرجال"من كان مُستناّ فليستن بمن قد مات، فإن الحيّ لا تُؤمَن عليه الفتنة" وهناك الكثير من الرموز المصرية التاريخية المشرفة جديرة بأن تكون نقاط مرجعية تُضئ الطريق لكل وطني مخلص شريف، بعيدا عن عتمة النخب الملفقة بالوطنية زورا وبهتانا، من لها ثمن في أسهم البورصة السياسية الخارجية تهبط وترتفع حسب الدور التي تقوم به، وشعارها هو "أينما وُجدت المصلحة فثمّ الكذب والتملق و"اللف والدوران" لحصد الغنائم والتتويج بالنياشين والتمائم."

تلك النخبة المأجورة التي تتعلل بسياسة الأمر الواقع ولعبة التوازنات وغيرها من المصطلحات المطاطية وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وليتهم أجادوا اللعب حتى بتلك المفرادات فلكل سعى ثمرة ولكل صوت صدى إن صدق صاحبه، لكن هؤلاء لا يؤمنون إلا بذواتهم وأفكارهم ومصالحهم التى لا تتعدى طموحاتهم الشخصية، فيركنوا إلى الجمود والفتور حفاظا على تدفق الأموال، وكلما طالت الأزمة شبرا زادت أموالهم ذراعا، ومن تجرأ وعارض سياساتهم ممن اكتشف حقيقتهم حلّقوا على اسمه وسلطوا عليه المتردية والنطيحة والموقوذة، ينهشوا في عرضه ويمزقونه شرّ ممزق.

من النماذج الوطنية المشرفة التى دفعت ثمنا باهظا من أجل القضية المصرية ولم تقبض ثمن بيعها أو رهنها في يد قوى خارجية، المناضل الكبير محمد فريد الذي سافر إلى الخارج بعد خروجه من السجن حاملا معه حلمين لطالما راوداه في أحلامه واصطحباه في مسيرة نضاله، هما الجلاء والدستور.

سافر محمد فريد إلى أوروبا كي يُعد لمؤتمر لبحث المسألة المصرية بباريس، وأنفق عليه من ماله الخاص، ودعا كبار معارضي الاستعمار من الساسة والنواب والزعماء، لإيصال القضية المصرية للمحافل الدولية، وأثناء إقامته في باريس قابل أعضاء من مجلس النواب الفرنسي، ومدير جريدة الديلي نيوز، ليعرض قضيته الوطنية، لكنهم طالبوه بالسكوت عن الاحتلال والتوقف عن المطالبة بالجلاء مقابل الإصلاح الداخلي والدستور وامتيازات خاصة، لكنه رفض بعدما تأكد أن عرض الانجليز مجرد خدعة للإيقاع به وتحويله إلى أداة في يدهم، كان بإمكان محمد فريد أن يقبل العرض في ظل خيارات معدومة وقتذاك، لكنه رفض ولزم غرز المبدأ الوطني الذي أخرجه وبقى هكذا لسنوات حتى توفاه الله مُفلسا في ألمانيا بعدما أنفق كل أمواله على التعريف بالقضية المصرية من دون مساومة أو تبعية لأحد، مات محمد فريد  ولم يجدوا معه ثمن نقل جثمانه إلى مصر، فتكفّل رجل أعمال مصري من الزقازيق بنقل الجثمان على نفقته الخاصة.

مثل هذه النماذج تستحق أن تُتخذ قدوة ونبراسا في مسيرة النضال الوطني لإعلاء كلمة الوطن، وليس نخب البوتكس وعربات الكاديلاك وجروبات الواتساب وقاعات الفنادق الفاخرة، وبكل أسف أمثال هؤلاء طغوا على المشهد الوطني وراح وسط رذائلهم ومعاركهم الرخيصة كل وطني شريف أبيض اليد عفيف اللسان، وصبغوا المشهد بلون واحد يروق لمن يُحرّكهم ويدفع لهم ثمن تبريدهم لمعاني الوطن وقضياه العادلة، فمن يدفع للزمار يختار اللحن الذي يُطربه.