أحمد أمين يكتب: التحليل السياسي بين الشرق والغرب

ذات مصر

في حديث جانبي منذ مدة ليست بالقصيرة بين أحد أعلام العلوم السياسية وأحد طلابه في الدراسات العليا، قال الأستاذ الدكتور في معرض حديثه أن العلوم السياسية هي علم أمريكي غربي بالأساس، وأنه لولا الولايات المتحدة لما وجد هذا التخصص ولا شهد هذا التطور الكبير خلال القرن الماضي.

ينتمي حقل العلوم السياسية إلى مجال أكثر رحابة وسعة تحت مظلة العلوم الإنسانية والاجتماعية Social Sciences والتي تطورت بالفعل منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر على يد أوغسطين كونت وغيره من الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين والذين جاءوا كتطور هام في أعقاب عصر النهضة الأوروبية منذ القرن السادس عشر. ونشأت مدرستين للعلوم السياسية في أوروبا إحداها في لندن والأخرى في باريس في القرن التاسع عشر، واللتان تعتبران مرجعاً حتى الآن في هذا الحقل المعرفي. غير أن تطور هذه العلوم ارتبط بتطور علوم عديدة في العصور الوسطى كعلم العمران والمجتمع على يد أشهر مفكري ذاك العصر عبد الرحمن بن خلدون على سبيل المثال. ولابد إذن من تناول ما يعتقده الكثير من الذين تتلمذوا في هذه المدارس في أوروبا ومن بعدها الولايات المتحدة من مركزية كلٍ منهما في الفكر العلمي والثقافي والأكاديمي والذي أصبح مفهوماً مهيمناً على كل من مر من هناك، وامتلاكه شعور التفرد والتمييز، وهو ناتج من تبعية فكرية وثقافية وعلمية لهذا المجال المعرفي والذي شكل العالم خلال القرنين الماضيين. 

يرتبط التحليل السياسي للظواهر السياسية والاجتماعية بمنظومة القيم والتي تنتج من هيمنة مجتمعات بعينها وتفوقها على المستوى الثقافي وغلبتها الحضارية مفضيةً بطبيعة الحال إلى تبعية الضعيف للقوي، وخضوع المجتمعات التي تعرضت لموجات من الاستعمار الأوروبي والغربي، والتي أدت لتآكل واندثار منظومات قيمية مغايرة عن تلك الغربية، والتي قُدِّرَ لها أن تكون في الصدارة بحكم هيمنة تلك المجتمعات على مقدرات العالم منذ القرن التاسع عشر. ففي الوقت الذي كانت فيه المجتمعات الأوروبية في أحط مراحلها الحضارية والثقافية والاجتماعية قبل هذا التاريخ، كانت الإمبراطورية الصينية في قمة ازدهارها وهيمنتها على الفكر السياسي والثقافي والصناعي في محيطها الإقليمي على سبيل المثال. وكذلك كان الحال في شبه القارة الهندية، والتي خلقت نموذجاً مختلفاً بكل تعددها وتنوعها الثقافي والديني. وتزامن ذلك أيضاً مع هيمنة حضارات الشرق والتي انتجتها مجتمعات المسلمين بمكوناتها المختلفة عرقياً ولغوياً ودينياً، والتي سادت لعدة قرون في بغداد ودمشق والقاهرة وبيروت وقرطاج. وكان الأمر أكثر ازدهاراً في بلاد الأندلس والتي اعتبرت حجر الأساس في خروج مجتمعات أوروبا فيما بعد من تخلفها وتراجعها. 

هذا على المستوى التاريخي، والذي ربما يثير الغيرة والحنق في نفوس أبناء الغرب الآن، بل وفي عقول ومنتسبي العلوم السياسية والاجتماعية من بلاد الشرق والذين تم غسل أدمغتهم في مراكز الأبحاث والكليات في أوروبا والولايات المتحدة، وتحولوا لأدوات غطرسة لكل ما ينتمي للغرب والولايات المتحدة تحديداً أكثر من أبناء تلك البلاد أنفسهم. ولم يقتصر ذلك على نظرتهم لمجتمعاتهم التي خرجوا منها فحسب، بل حتى في تناول كل القضايا الدولية في الصين وروسيا والهند وبلاد آسيا وأفريقيا. وكأنهم تم صناعتهم لتعميق الهيمنة الغربية والأمريكية في العالم بالمجان.

يبدو ذلك جلياً في تناول الأزمة الأوكرانية والتي تشتبك فيها روسيا مع الغرب والولايات المتحدة باعتبارها قائدة لتحالف حلف شمال الأطلسي. فجل تحليلات منتسبي العلوم السياسية في المنطقة العربية وتحديداً أولئك الذي مروا بالغرب تدور حول هيمنة الولايات المتحدة. تلك الهيمنة التي تململت منها دول أوروبا منذ بداية الأزمة الأوكرانية. فقد ارتأت مجتمعات فرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرهم من دول أوروبا أن السير خلف الولايات المتحدة الأمريكية في توجهاتها لمواجهة روسيا في أوكرانيا وفي دول البلطيق سيؤدي إلى خلخلة البنى التحتية السياسية والاقتصادية والأمنية في دول أوروبا، والتي لم يعر قادتها أي اهتمام بمصالح شعوبهم في سياق كل هذه الاشتباكات بين روسيا والولايات المتحدة. وربما كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقدمة القادة الأوروبيين المنادين بالخروج من التبعية العمياء للولايات المتحدة في سلوكها العدائي لروسيا في أوروبا على سبيل المثال. فأين إذن يمكن وضع تحليلات أبناء المنطقة العربية والذين يدافعون على الهمينة الأمريكية أكثر من الأوربيين والأمريكيين أنفسهم. 

هذا على جانب الأزمة الأوكرانية. أما لو نظرنا للملف الصيني وتعاطي الولايات المتحدة معه منذ أزمة Covid-19 حتى الآن، فسنجد جل تحليلات ذات الدارسين في الولايات المتحدة والغرب، من أبناء المنطقة، تدور في فلك الهمينة الغربية والأمريكية دون تعقل لحجم تشابك الصين والولايات المتحدة في ملفات لا حصر لها في شرق آسيا وفي المحيط الهادئ والشرق الأوسط، بل وحتى في أوروبا نفسها. وخير دليل على ذلك زيارة كلٍ من المستشار الألماني أولاف شولتس ثم الرئيس الفرنسي ماكرون للصين خلال الشهور القليلة الماضية للصين. وهو ما يثبت بما لا يدع مجال للشك استشعار كلٍ منهما أن الصين أصبحت تمسك بخيوط ملفات كثيرة سحبتها من بين أيدي دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية تدريجياً منذ بداية العقد الثاني من الألفية. 

صحيح أنه ليس لروسيا ولا للصين هذا الزخم السياسي في وسائل الأعلام العالمية في مجال التحليل السياسي، وليس لهم جيوش من دارسي العلوم السياسية في مراكزهم البحثية والأكاديمية من أبناء المجتمعات الأخرى كأولئك الذين أصبحوا عبئاً على مجتمعاتنا في الشرق، إلا أن هذا لا ينفي وجود تحليلات رصينة ومقبولة أكاديمياً وعلمياً تغاير تلك التي لا نفتأ نسمعها ليل نهار. وهو ما يعني استناد تلك التحليلات والدراسات لمنظمات قيمية مختلفة عن تلك التي يتم تقديمها. فهذه التحليلات من منتسبي هذه الحقول المعرفية والذين مروا من هناك تدور مع المصلحة الأمريكية أينما كانت، على حساب مصالح شعوبهم التي خرجوا منها، بل وشعوب دول أخرى لا تريد لهذه الهيمنة الأمريكية المفسدة أن تستمر في الريادة بعدما فشلت في حفظ أرواح الأوكرانيين على سبيل المثال منذ بداية العملية الروسية الخاصة. بل وتكرر نفس التوجه العدائي في المحيط الإقليمي للصين في تايوان. فهل سيظل هؤلاء يدورون مع المصلحة الأمريكية أينما كانت؟ أم سيكون هناك نهاية لهذا العبث العلمي والأكاديمي في العقل الجمعي في المنطقة وفي العالم؟