يحيي حسن عبدالهادي يكتب: كياناتٌ خشبيةٌ

ذات مصر

عَلَمٌ ودستورٌ ومجلس أُمّةٍ ...... كُلٌ عن المعنى الصحيح مُحَرَّفُ
ألفاظُ ليس لنا منها سوى .. أسمائها، أما معانيها فليست تُعرَفُ
- الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي.

لا يفتأُ الكثيرون مِنَّا يسترجعون بفخرٍ وحنينٍ مشهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب خطيباً فى المدينة سنة ٢٠ هجرية، يَحُضُّ الرعيّةَ على استخدام حقها فى انتقاده وتقويمه، فإذا بأعرابيٍ يُقاطعه بقوةٍ وصدقٍ قائلاً (والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لَقَوَّمنَاهُ بسيوفنا) .. فيبتهج الحاكم الصادق ويشكر اللهَ قائلاً (الحمد لله الذى جعل فى رعية عمر مَن  يُقَوِّمُه بِحَدِّ السيف إذا أخطأ).
كان المشهدُ واقعياً وصادقاً .. ليس به ذَرَّةُ كَذِبٍ ولا تمثيل .. الحاكم صادقٌ في ديمقراطيته .. والمواطِنُ صادقٌ في معارضته أو تأييده.. ومُحاسَبَةُ الشعبِ لحاكِمِه حقيقيةٌ وواقعٌ مُعاشٌ بلا ادِّعاء.
لم يَمُّر على هذا المشهد الديمقراطى الجليل إلا خمسٌ وعشرون سنة، جرى فيها ما نعرفه من فِتَنٍ انتهت بتحويل الخلافة الرشيدة إلى مُلكٍ عضود .. وتَحوَّلَ المشهدُ العُمَرِىُ الواقعى الصادق إلى تمثيليةٍ هزليةٍ ركيكة .. حاول (أحدُهُم) استنساخ الواقعة العُمَرية فى مجلس معاوية بن أبى سفيان فقال له (والله لَتَستَقِيمَنَّ بنا يا معاوية أو لَنُقَوِمَنَّك)، فلم يَدَعْهُ معاويةُ يُكمِلُ جُملَتَه وسأله مُحتدَّاً (بماذا؟) .. فانكمش السائلُ واستدرك هامساً (بالخشب) .. فارتاح معاويةٌ في جِلسَتِه وقال (إذن نستقيم) .. تاريخ الخلفاء للسيوطى.
(للذكرى: بعد جلسة الحوار الخشبي هذه بين يَدَي معاوية بأكثر من ألف عام، امتشق رئيس تحرير جريدةٍ حكومية سيفه الخشبي وجعل عنوان مقاله الافتتاحى بالخط العريض "لا لمبارك" وهو عنوانٌ بَتَّار أوحَى للقرَّاء بشجاعةٍ غير معتادةٍ من الرجل، فإذا بالمَتْنِ كله يدور حول "لا لمبارك إذا رفض مطالب الشعب بتمديد فترته الرئاسية!!").
مِن يومها وهذه الديمقراطية الخشبية هى السائدة (باستثناءاتٍ تؤكد القاعدة) تقودنا من تخلفٍ إلى تخلف (وهل يمكن أن تقود إلى غير ذلك؟!) .. ديمقراطية الشكل لا المضمون .. التمثيل لا الحقيقة .. ولأن الطبعَ يغلب التطبع، فإن المستبد أحياناً لا يطيق التمثيل طويلاً فيخلع ثوب المسرح ويُطلِقُ يدَ البطش صريحةً في وجه معارضيه وأقربائهم .. حتى جاءت عهودٌ من الاستبداد الصريح صار الناس فيها يترحمون على أيام الديمقراطية الخشبية (عام ٧٥هـ أي بعد حوار معاوية بربع قرنٍ، خطب عبد الملك بن مروان فوق منبر الرسول في المدينة بعد قتل عبد االله بـن الزبير قائلا ً "واالله لا يأمرني أحدٌ بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربتُ عُنُقَه" .. فلم ينطق أحدٌ).
لم تسقط الدولة الخشبية فوراً، بل تمددت بالقصور الذاتي لمزايا وأخلاقيات عهد النبوة والخلافة الراشدة السابقة عليها من ناحيةٍ، ولأنَّ العالَم المحيط بها كان يَغُطُّ في جاهليةٍ واستبدادٍ أكبر من ناحيةٍ أخرى .. شيئاً فشيئاً كان العالم يتحرر من قيود جاهليته واستبداده، بينما السوس ينخر في أخشابنا .. إلى أن تبدلت الأوضاع وصِرنا إلى ما نحن فيه.
في مصر .. عانينا كثيراً (ولا نزال) من هذه الدولة الخشبية .. حواراتها خشبية .. مؤسساتها خشبية .. إعلاميوها خشبيون .. عدالتها خشبية .. برلمانها خشبيٌ .. نوابها خشبيون .. مؤتمراتها خشبية .. بل ومعاركها خشبية تستأسد على فنانٍ أو لاعبٍ وتأخذنا إلى معارك جانبية صغيرةٍ ومُفتَعَلَةٍ وصارخةٍ وآمِنَةٍ لا تكلفة لها.
وقد ابتُلِينا بأضعف أنواع الخشب وأوهنها .. فالخشب نفسه أنواعٌ .. فهناك الأخشاب الصلبة كالبلوط والقرو والزان .. والأخشاب الليّنة وهى أطرى وأضعف، منها الطبيعى كالسويد والموسكى، ومنها الصناعى الأقرب للورق في ضعفه وهَوَانِه كالخشب الحبيبى الذى يُصنَعُ من نشارة الخشب أو مصاصة القصب، والأبلكاج أو الأبلكاش بالعامية المصرية.
يا سادة .. إن الدول لا تقوم على أساسٍ من أبلكاش .. فما بالكم والسوس ينخر فيه؟!.