يحيى حسين عبدالهادي يكتب: يا وَلِيَّ النِعَم

ذات مصر

(ولَوْلا بُنَيَّاتٌ وشِيـبٌ عـــــــواطـــِلٌ .. لــمــا قَــرَعَــتْ نفـسي على فائِتٍ سِني) .. بهذه الكلمات عَبَّر البارودي عن جانبٍ من معاناة السجناء السياسيين من العرابين في منفاهم (فالمَنْفَى سِجْنٌ، لا سيما مع انعدام وسائل التواصل قبل قرنٍ ونصف من الزمان) .. لا أعلم أن أحداً من المؤرخين والباحثين قد تناوَل معاناة هؤلاء البُنَيَّاتِ والشِيبِ العواطلِ من الأمهات والزوجات والبنات وما تَعَرضن له من مصادراتٍ وانتهاكاتٍ بعد نَفْيِ رجالهن .. لكننا نَعلَمُ بعضاً مما يحدث لمثيلاتهن الآن.

من مأثورات إبراهيم عبد المجيد في رائعته "الهروب من الذاكرة": (ليس أقوى مِمَّنْ تُحِبَّه النساءُ) .. في سجون مصر آلافٌ من أولئك الرجال الأقوياء الصامدين بِحُبِّ نسائهم لهم .. بَيْدَ أنَّ نساءهم يَخُضْن معركةً أقوى دون أن يلتفت إليهن أحد .. الحياة في مصر صارت في حد ذاتها معركةً يوميةً للمرأة .. فما بالكم إذا امتدت لسنواتٍ وقد غاب عنها السَنَد.

قبل أسبوعين، انزعج المصريون (فيما عدا الأنطاع) من خبر اختفاء المهندسة/ نعمة الله هشام .. وهي واحدةٌ من أولئك النسوة .. زوجةٌ مصريةٌ لا تمارس السياسة .. اعتُقِل زوجها المحامي/ محمد الباقر قبل حوالي ٥ سنواتٍ عندما ذهب للدفاع عن علاء عبد الفتاح! .. في زيارتها الأخيرة، رَوَى لها زوجها ما حدث له وشاهَدَتْ آثار الاعتداء عليه .. فما الذي فعلته نعمة؟ وما الذي يمكن أن تفعله أيُّ زوجةٍ مكلومةٍ مكانها؟ .. فقط جأرت بالشكوى إلى الله على صفحتها .. لكن يبدو أن أحدهم قد استكثر على الذبيحةِ أن تَئنَّ .. (فاختفت) نعمة نهاراً كاملاًً، انتهى بالتبشير بأنها على الأسفلت وأنها بحمد الله قد خرجت (مِنْ أين؟).

في نفس التوقيت تصرخ رُفَيْدة زوجة الشاب محمد عادل المحبوس منذ خمس سنواتٍ (أيضاً) بين احتياطي وتدوير من التدوير إلى آخر هذه الدائرة الخبيثة التي صارت من علامات هذا العصر: (أمنيتي في الحياة إن الدولة تسيبنا في حالنا، آه والله، ماليش طلبات تانية .. عاوزة جوزي يخرج من السجن، وأنا أبطل لف ع السجون ونحاول نتعالج يمكن ف يوم نقدر نتعافي نفسيا وجسديا من السنين السوداء اللى عشناها دي .. كل اللى أعرفه إننا تعبنا جدا، وإني بافرفر حرفيا مش كلام وخلاص).

نساء السجناء السياسيين في مصر مأساةٌ غير مَروِّيةٍ إلا نادراً .. فرغم أن السجونَ استقبلت الكثيرين من ذوي الأقلام الرشيقة التي تَحَدَّثَتْ عن معاناة أصحابها (بل إنَّ كثيرين دخلوها أزواجاً لا سيما من اليسار)، إلا أنني لا أتذَّكَر أن أحداً منهم قد تَحَدَّثَ عن معاناة أهْلِه في فترة السجن، إلا الدكتور/ عصام العريان (رَحِمَه الله) في مقال (فاطمة فضل .. زوجتي) وهو مقالٌ طويلٌ تَحَدَّثَ فيه عن معاناتها أثناء اعتقالاته المتكررة .. (شكراً لِمَن يتفضل بالتصويب والإضافة في التعليقات).

عندما عَلِمْتُ بوفاة عصام وأنا في المعتقل (كان في سجنٍ آخر) لم أَبْكِهِ وحدَه، وإنما بكيتُ معه فاطمةَ التي انتظرَته هذه المرَّة سبع سنواتٍ علَى أمل أن يُفاجئها بخروجه كالمرات السابقة، فإذا بهم يعيدونه إليها جُثَّةً تُدفَنُ سِرَّاً، ويُلعَنُ صاحبها في برامج المساء، وتُلامُ نقابته على نَعْيِه(!).

نسأل اللّهَ وَلِيَّ (النِعَم) و (الفواطم) وباقي الأسماء المؤنثة، أن يرفق بِهِنَّ ويكشف عن مصر هذه البلايا.

فُضلياتٌ أُخرياتٌ عافَرنَ سنواتٍ لكن المحنةَ كسرتهن في النهاية .. مثل الصيدلانية سارة خطاب التي كتبت على صفحتها يوم عيد الفطر: (انتهت القصة .. كُتِبَ على قصتنا الانتهاء بعد ٧ سنواتٍ عجافٍ من اللف على السجون، والأحكام الظالمة من مؤبد لقبول النقض للحكم ب ١٥ سنة، والزيارات والبهدلة والتوتر والتفتيش والإهانة والتفاصيل اللي موتت روحي جزء جزء كأنه موت بالبطئ .. أُشهِدُ اللّهَ أنه كان نِعْمَ الزوج الصالح .. لكن جاء الوقت لكتابة أنِّي "قد خسرت المعركة" .. الحياة مؤلمة وصعبة قوي وضاغطة على الواحد بشكل بشع وظالمة جداً ومش عادلة).

شيءٌ قريبٌ من هذا حدث لنورهان حفظي التي كتبت تعلن انفصالها عن زوجها أحمد دومة المعتقل منذ ديسمبر ٢٠١٣ (أنا آسفة لو باعلن خبر ممكن يسبب للبعض خذلاناً أو حزناً أو إحباطاً في خِضَمِّ هزيمة أكبر كلنا عايشينها).

هؤلاء خسرن المعركة ..فهل يظن كُلُّ مَن شارك في كسرهن أنه انتصر؟ وكيف يَأمَنُ هؤلاء الظَلَمَةُ مكرَ الله بهم وبأسرهم؟.

بيننا عشرات الآلاف ممن لا زِلن يعافرن أو ممن أحنَت ظهورَهُنَّ المحنة .. ما يحدث ينزع البَرَكَةَ من البلد الطيب، فما بالُكم بالقرية الظالِمِ بعضُ أهلها؟ .. هذا عن نساء المعتقلين، أَمَّا النساء المعتقلاتُ فهو العار الأكبر وله حديثٌ آخر.

تَرَبَّينا على أنَّ الكِبارَ كِبارٌ حتى في خصومتهم .. بِفَرضِ أنَّ هناك خصومةً .. وأنَّهم كِبارٌ.