فراج إسماعيل يكتب: الرأي الآخر والصحافة الحرة

ذات مصر

لا يمكنك أن تتوقع دولة قوية يحترمها العالم وتأخذ مكانتها في حواراته وقضاياه ومشاكله، من غير وجود معارضة قوية ذات شأن، تقول ما تريد دون حجر على حرياتها، ودون أن تجد نفسها لاحقا مهددة بالملاحقة الأمنية والقضائية.
الأمر نفسه ينطبق على التنوع الإعلامي. إعلام واحد تملكه الدولة ويغيب عنه التنوع، يعرض الدولة نفسها للفشل ويبني أبراجا من الإخفاقات والإحباطات النفسية لمجتمع لا يرى ما يبشر به الإعلام الواحد من الرغد والرفاهية أو حتى أبسط ضرورات البقاء.
عندما لا نجد أحزابا فعالة، لابد أن نتأكد من تغييب الرأي الآخر. مهمة الحزب هو الرأي الآخر فإذا منع منه بفعل فاعل أو امتنع عنه مؤثرا السلامة، يصبح هو والعدم سواء.
وعندما تتشابه الصحف كلها، خاصة وحكومية وحزبية - إن وجدت - لدرجة أنك لا تستطيع التفرقة بينها إلا بالاسم، فمن الطبيعي أن تفقد بريقها وقدرتها على الاستمرار، وتتقلص صفحاتها، ولا تجد ما تخوض فيه، إلا مقالات لا تسمن ولا تغني من جوع.. موضوعات إنشاء لا أكثر ولا أقل، وملفات لا تهم الناس ولا تقترب من شكواهم الواقعية.
ليس السبب هو غياب المهنية عن أجيال جديدة من الصحفيين ولا ضعف في تعليمهم وتدريبهم، ولكن لشعورهم بعدم الأمان على أنفسهم وغياب  الثقة في أنهم يمكن أن يكونوا طلقاء إذا كتبوا ما يختلف عن رأي الدولة وتوجهاتها.
التنوع والاختلاف قوة. أما النمط الواحد والرأي الواحد والخبر الواحد، فهذا يعني أن البناء الذي تظنه استقرارا، لا يعبر عن الحقيقة، ومن ثم تفقد الدولة قوتها الناعمة الخارجية، ولا تصبح ذات شأن مهم في القضايا الدولية.
الصحف الورقية لم تضعفها وسائل الإعلام الجديدة، ولم يعرضها للبوار أن هناك أسرع منها في نقل الأخبار، ولكن "التكميم" هو الداء العضال الذي يجعل قراءة الفاتحة على روحها أقرب من أي شيء آخر.
من يشتري صحيفة تخشى قول الواقع وتغيبه. ما الذي يدفع أن تقتطع نقودا من معيشتك لتشتري أوراقا تكذب أو تجمل، ولا تستطيع أن تجتهد وتسعى في سبيل خبر حصري أو رؤية مستقلة.
لا زالت الصحافة الورقية الغربية مبهرة بفضل مناخ الحريات الذي تتمتع به، ولا زالت قادرة على إنتاج صحفيين مهرة يفجرون القضايا ويلفتون نظر القراء إلى صحافتهم، فلا تستغني مثلا عن «الواشنطن بوست» لمجرد أن في يدك «النيويورك تايمز»... وهكذا.
صحافة أمريكا والغرب عموما تفجر فضائح سياسية واقتصادية، فلا ينال ذلك من الاستقرار ولا من قيمة الدولة، بل يرفع من شأنها ومن نموذجها. 
سر عظمة أمريكا في الشفافية التي تتمتع بها صحافتها. هذه الشفافية ضايقت الرئيس السابق ترمب ودخل معها في حرب ضروس، انتصرت فيها الصحافة، مقروءة ومرئية، وخرج هو مهزوما في الانتخابات الرئاسية لأن المنتخبين خشوا على قيم أمريكا وسر عظمتها.
الاختلاف يشد نظر الناس ويستثير فيهم المشاركة في الجدل وطرح الحلول، وبه يتحملون منغصات الحياة الاقتصادية وأزمات المعيشة.
قبل مؤتمر الحوار الوطني، نسي الرأي العام عمرو موسى، وكاريزميته الشهيرة، ومصطلحاته الجذابة، فهو في الحقيقة واحد من ألمع وزراء الخارجية في تاريخ مصر، بقوة شخصيته وحضوره الدولي.
ولما قال في المؤتمر كلاما مختلفا عن السائد، ورأيا مغايرا، رأينا مصر كلها تتذكره، ووسائل التواصل الاجتماعي تشد الرحال إلى أقواله وعباراته الحاسمة، كأنه عاد ثلاثين سنة إلى الوراء.
إنه الحنين إلى الكلمة الحرة ليس أكثر. الحنين إلى رأي آخر لا يخشى العاقبة ولا غضب السلطة. والاشتياق إلى سلطة تؤمن أن قوتها مستمدة من قوة الرأي المختلف معها.