فراج إسماعيل يكتب: لماذا تخلع أمريكا ملابسها الداخلية؟!

ذات مصر

أمريكا مثل "السيدة" الرغاية التي لا تكتم سراً مهما كانت درجة أهميته، أو لا تبتل في فمها "فولة".

حلفاء واشنطن يتبادلون علناً هذا الشعور بقلق كبير، إذ إن أسرارهم معرضة لأن تكون في قبضة أصغر ناشط في غرف الدردشة على الإنترنت.

قبل عدة أسابيع.. في التحليلات التي أعقبت تسريب آلاف الوثائق الأمريكية بالغة السرية، من حصونها المنيعة في البنتاجون ووكالة المخابرات المركزية CIA، لم يستبعد خبير واحد أن تكون وسيلة ضغط على من يراد ابتزازه أو إخضاعه، فلا يعقل أن أمريكا بقوتها العظمى المهولة، غير قادرة على حماية وثائقها، وصون أسرار حلفائها.

الدليل أن بعض الوثائق خاصة بدول عربية مهمة، وأخرى في الشرق الأوسط، بدأت أمريكا تشعر بخروجها عن سيطرتها في ظل وهم "البديل الصيني" وتبعا لذلك لابد من قرصة "ودن" مدمية. 

وهذا ما تؤدي إليه وثيقة تحدثت عن إنتاج دولة عربية محورية صواريخ لتزويد روسيا بها في حربها ضد أوكرانيا، والتنصت على مكالمات واجتماعات مسؤولين كبار، للإيحاء أولاً بأن أدق التفاصيل والاجتماعات تحت السيطرة، وثانياً لتوجيه رسالة مفادها أن أي دولة لن تكون في مأمن من العقوبات الأمريكية إن تجرأت على دعم روسيا.

طبعا ليس هذا الهدف الرئيسي، وإنما تحذير مبطن للحلفاء من التمرد على هيمنتها.

أي أن هناك خطا أحمر للتوجه الشرق أوسطي تجاه الصين، المنافس الاقتصادي الأول للولايات المتحدة.

خط أحمر يماثل تجاوز أوكرانيا عندما فكرت في الانضمام للناتو، فتعرضت للغزو الروسي وللتدمير، وربما للفناء كدولة على الخريطة.

أمريكا ربما توصلت إلى ممر سحري جديد لاسترجاع هيبة إمبراطوريتها، فقد فشلت في كل حروبها العسكرية السابقة، بدءا من فيتنام إلى أفغانستان والصومال والعراق وسوريا.

ممرها السحري ذاك يستند على قدرات وتمدد أجهزتها المعلوماتية والاستخباراتية بما لديها من تكنولوجيا فائقة.

وبهذه الأسرار تخضع من يخرج عن طاعتها أو يهدد بذلك، سواء تعلق الأمر بنفط الخليج أو التخلص من هيمنة الدولار في اتجاه اليوان الصيني، أو حتى التورط أكثر مع الصين فيما يخص توسطها لإنهاء خلاف استراتيجي وجيوسياسي خطير كالذي كان بين السعودية وإيران.

ذلك الخلاف كان أساس التجهيز لحرب جديدة في الشرق الأوسط بقيادة تكتل إقليمي على رأسه تل وأبيب والرياض، وبمشاركة دول أخرى في المنطقة لتدمير نظام طهران.

يبدو أن الصين نشلت ورق الكوتشينة الرابح من واشنطن بعد اقترابها من ساعة الصفر.

لقد هدمت مخطط حرب إقليمية كبرى في الشرق الأوسط، وأفسدت تجهيزاتها وقلبت الطاولة بنجاح وساطتها في المصالحة السعودية الإيرانية، والتأهب لعودة العلاقات الدبلوماسية بينهما خلال أيام.

تسريب الوثائق ليست إلا ثورة "البقرة الأمريكية الجريحة" في مباراة مصارعة ثيران مثيرة ضد منافسين يلعبون بمهارة وذكاء ومناورات ذكية تتجاوز أسلوب العضلات والقوة الغاشمة التي تصرف بها بوتين مع أوكرانيا.

رأينا لاحقا حرب السودان التي لا يمكن تجاهل وجود أيدي لاعبين دوليين فيها، أولهم واشنطن التي تخشى المزيد من النطح الصيني المؤلم، لدرجة أن الجنون ضربها بعنف بما تردد عن إمكانية دخول الصين وسيطاً بدبلوماسيتها الفتاكة، فأوحت إلى إسرائيل بإفساد طبخة بكين، والدخول وسيطا بين البرهان وحميدتي.

في الرياض.. لم يغفل صانعو قرارها السياسي مقاصد اللعبة الأمريكية و"بامبرز" الوثائق المخروم، فردوا بإجلاء إيرانيين عالقين في السودان على ظهر سفينة ملك السعودية، أوصلتهم سالمين من بورتسودان إلى قاعدة الملك فيصل البحرية في جدة.

وفي مشهد من الود الدبلوماسي غير المسبوق بين الطرفين السعودي والإيراني، هبطت طائرة إيرانية في جدة وحملت العالقين إلى طهران.

رسالة صارمة ردت بها الرياض، وأنها لا تخشى العواقب.

وثائق أمريكا المسربة بمثابة صاروخ عابر للقارات في جدار العلاقات الأمريكية بالعالم.

أسرار تتداولها غرف الدردشة عبر عشرات الصور لوثائق المفترض أنها مغلقة بالشمع الأحمر.

وأكدت أن التحليلات لم تتجاهل افتراض أن تكون الاستخبارات الروسية تفوقت على نظيرتها الأمريكية وتوغلت داخلها لتفتح مخازنها.

لكنها ركزت أكثر على افتراض أن راعي تلك الأسرار هو نفسه الذئب، الذي سربها عن عمد ليثبت للصديق الذي يفكر في الخروج عن طوعه، وللعدو الذي بدأ يستهين بقدراته، أن أجهزة معلوماته تخترق كل شيء وتصل إلى مخادع الرؤساء والزعماء، تتنصت عليهم وتستمع لنبضات قلوبهم وتسجل شخيرهم، وأن الرصاصة لا تزال في جيبه.

زاد من تلك التكهنات أن إعلان واشنطن اعتقال المشتبه به، لم يكن إلا مدعاة للسخرية، فما هو جواز مرور موظف صغير في تقنية المعلومات باستخبارات الحرس الوطني للقوات الجوية في ماساتشوستس لم يتجاوز 21 عاما، إلى خزائن وثائق بذلك الحجم من الخطورة على الأمن القومي والعلاقات مع الحلفاء كما جاء في توصيف "البنتاجون" لها؟!

هل تخلع أمريكا ملابسها الداخلية بهذه البساطة؟!

الصحفي الأمريكي ستيفن نيوكام كتب في موقع "ذا هيل" أن هناك دائما مشتبها به، غالبا يعمل في الاستخبارات كالحالة الأخيرة، وكذلك إدوارد سنون الذي سرب من قبل وثائق برامج المراقبة السرية للغاية.

سنون عمل مع وكالة الأمن القومي الأمريكية وأحد المطلعين على مجتمع الاستخبارات، وفر من المحاكمة إلى هونج كونج ومنها إلى موسكو حيث حصل على جواز سفر روسي في عام 2013 .

الوثائق التي سربها تفاصيل خطيرة للغاية عن مراقبة الحكومة الأمريكية سرا لملايين الأمريكيين من المواطنين العاديين في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، وبرامج أمريكية للتجسس على الحكومات الأجنبية، والتنصت على عدد من مكاتب الاتحاد الأوروبي، و38 سفارة أجنبية على الأقل.

ونشرت صحيفة "نيويورك تايمز" في مارس عام 1971 دراسة دفاعية مسربة بالغة السرية عن تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام. 

وقام دانيال إلسبيرج، المحلل العسكري في صحيفة التايمز، بتصوير وثائق تضمنت تفاصيل القرارات والمداولات المتعلقة بالسياسة الأمريكية بين عامي 1945 و 1967، وكانت مدغومة بخاتم "سري للغاية".

تصلح تلك الوثائق "شاهد ملك" على وجود لاعبين دوليين في حرب الجنرالين بالسودان، فهي تتحدث عن صناعة أمريكا للصراع في بعض مناطق العالم، والخطوات التي اتخذها رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبون مثل هاري ترومان، ودوايت أيزنهاور، وجون كينيدي وليندون جونسون في سبيل ذلك.

لا ينسى العالم الوثائق العسكرية التي عرضها عام 2010 موقع “ويكيليكس”، الذي أسسه جوليان أسانج. في منتصف الثمانينيات قبض على روبرت هانسن متلبسا في حديقة بفيرجينيا وهو يسرب وثيقة، وكان قد انضم إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي وإنفاذ القانون كوكيل خاص في عام 1976.

نجح طوال 25 عاما في التجسس على حكومة الولايات المتحدة لصالح الاتحاد السوفييتي وأجهزة المخابرات الروسية في زمن الحرب الباردة. وتمكن هانسن من الوصول إلى معلومات سرية، وبيع آلاف الوثائق إلى الاستخبارات السوفيتية والروسية، توضح بالتفصيل الخطط العسكرية الأمريكية، والاستراتيجيات في حالة الحرب النووية وتقنيات الأسلحة، وحصل في المقابل على 1.4 مليون دولار نقداً وألماساً.

رحلة التسريبات التاريخية قد تسهل الوصول إلى خفايا “الاستربتيز” الأمريكي لأسرار العالم التي بحوزتها.

إنها حروب ناعمة أشد فتكا.