فراج إسماعيل يكتب: سميح ساويرس ليس أزمتنا

ذات مصر

الأزمة لا تكمن في تصريحات سميح ساويرس لقناة «العربية» بأنه أوقف استثماراته في مصر وسيتحول إلى السعودية التي تقوم بثورة اقتصادية على حد قوله.

سميح عضو واحدة من أثرى عائلات الشرق الأوسط وأفريقيا، من حقه استثمار ملايينه في المكان وبيئة البزنس الآمنة. 

لن يفعل ذلك بالفتاكة والفهلوة، ولكن بدراسات جدوى. كيف يمكنه ذلك في مصر، مفتقدا عنصر التقييم الدولاري الذي يكتنفه الضبابية نتيجة أسعاره المتعددة، هل يقيمه بالسعر الرسمي غير المتوفر (31 جنيها) أو بالسوق الموازي (36جنيها) أو السعر الخارجي (42 جنيها)؟!

هذا موجز ما قاله وهوجم عليه، كأنه مطلوب منه، وأمثاله من رجال البزنس ضرب "الودع" أو السعى لقارئة  الفنجان!

طبيعي جدا أن يفكر رجل أعمال لم تهبط عليه الثروة بالصدفة أو المقامرة، وإنما بدراسات اقتصادية متعمقة لا تترك شاردة ولا واردة.

الضبابية الدولارية لا تقتصر عليه، وإنما وراء ما يتردد عن انسحاب استثمارات إماراتية وتراجع أخرى سعودية عن شراء بعض الأصول المعروضة للبيع.

نجيب ساويرس في حديثه لقناة "الحدث اليوم" لم ير في تصريحاته شقيقه ما يتهم به.

لا نحتاج للنظر في المرآة لنرى اقتصادنا متخما بالتجاعيد، وفي أشد الاحتياج لجراح تجميل حاذق يعمل مشرطه بمهارة ودقة.

هل يتم العثور على هذا "الطبيب".. أعني فريقا اقتصاديا يملك العلم والممارسة والخبرة.

المريض لا يبحث عن الطبيب وهو غير معترف بمرضه. والمريض بالانسداد الكامل للشريان التاجي لا ينجو بإصراره على نفث دخان سيجارته.

تنقصنا الشفافية مع أنفسنا وأحوالنا، وعدم تجريم وملاحقة من يتكلم عن متاعبنا الاقتصادية.

الأزمة الحقيقية "الديون الخارجية" التي تلتهم مواعيد استحقاقاتها وفوائدها جزءا كبيرا من الناتج المحلي.

لا ينبغي احتكار مسائل تتعلق بمصير مجتمع كامل. يجب الإنصات للجميع.

إذا تحدث سميح وشقيقه نجيب عن تضاؤل مشاركة القطاع الخاص، فلابد أن تأخذ الدولة المسألة بجدية. كم كانت تلك المشاركة سابقا وكيف أصبحت.

لدى الدولة هيئاتها الموثوقة التي تملك إحصائيات دقيقة. شفافية عرضها على مجتمع البزنس، لا تقل عن شفافية مصارحة الطبيب الحاذق لمريضه. في الواقع لا يقتله من الخوف والذعر وإنما يرسم له خطة الاستشفاء.

في تصريح سابق لنجيب ساويرس أن الدولة يجب أن تكون جهة منظمة للاقتصاد وليست مالكة له.

هذا حال الاقتصاد السعودي حاليا الذي قفز  به إلى نقطة البزوغ والانطلاق وجذب الاستثمارات الأجنبية خارج مجال النفط.

وزير المالية محمد معيط ذكر في أكتوبر 2021 أن حكومته تتطلع لرفع نسبة مساهمة القطاع الخاص إلى 50% خلال ثلاث سنوات مقبلة (من تاريخ التصريح). مر ثلثا المدة فكم النسبة التي تحققت حاليا؟!

سميح ساويرس في حديثه استند إلى رقم للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بأن حجم القطاع الخاص في الاقتصاد الكلي انخفض من 62% إلى 21% خلال السنوات العشر الماضية.

أرقام تحتاج لتوضيح عملي وجهد كبير إذا كنا نخطط فعليا لاستثمار أجنبي يرى في مصر مجالا حيويا مربحاً سكانياً. وأسواقاً وجغرافياً. بتلك الأرقام الضئيلة لن يتشجع.

بالتوازي لابد من النظر بعمق لإشكالية الديون الكبيرة.

في مارس الماضي نشر موقع (العربية) مستدلاً بجدول سداد الدين الخارجي متوسط وطويل الأجل، بأنه يتعين على مصر سداد 8.32 مليار دولار حتى نهاية يونيو 2023، وفي 2024 يجب سداد 10.9 مليار دولار في النصف الأول، و13.3 مليار دولار في النصف الثاني.

وخلال عام 2025 يجب سداد 9.3 مليار دولار في النصف الأول و5.8 مليار دولار في النصف الثاني من العام، أما في عام 2026 فيتعين سداد 6.6 مليار دولار خلال النصف الأول من العام بخلاف 10.2 مليار دولار خلال النصف الثاني.

ومن المقرر أن تسدد مصر لمؤسسات دولية نحو 3.6 مليار دولار في النصف الأول من 2023 و3.8 مليار دولار في النصف الثاني منه.

مؤسسة "أكسفورد إيكونوميكس أفريكا" قالت في تقرير سابق، إن مصر بحاجة إلى "تفادي خطر التخلف عن السداد".. لكنها استدركت بأن مصر ليست سريلانكا - فلديها احتياطي أعلى بكثير وخيارات تمويل أفضل في المستقبل. مشكلة مصر يمكن السيطرة عليها من خلال سياسات أكثر صرامة، ودعم الدائنين الرسميين.

كيف نحصل على دعم الدائنين؟.. ليس بمزيد من القروض، وإنما بإعادة هيكلتها، والدخول في مفاوضات قاسية للتنازل عن جزء من الديون. هكذا فعل الدائنون سابقا مع أزمة الأرجنتين المالية الكبيرة فتنازلوا عن  37.7 مليار دولار وقاموا بهيكلة 99% من المستحقات الباقية، وإطالة مدد سدادها، مع انخفاض سعر الفائدة السنوي.

وتوصلت الأرجنتين التي تأتي على قمة دول العالم المديونة، إلى اتفاق مع ثلاث مجموعات من الدائنين الرئيسيين لإعادة التفاوض على شروط الديون.

استغرق ذلك أربعة أشهر من المفاوضات الشاقة بين الأرجنتين ودائنيها في سبيل خروج البلاد من حالة التخلف عن السداد. 

 وبشيء مشابه تعاملت دول اليورو مع أزمة اليونان.

وحسب CNBC تخطط أثيوبيا لتكون واحدة من أوائل الدول التي تحصل على إعفاء من الديون بموجب برنامج الإطار المشترك لمجموعة العشرين. 

وفي وقت سابق أعفت الدول السبع الصناعية الكبرى بالإضافة إلى روسيا 18 دولة أفريقية من ديونها بنسبة 100% مستحقة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي، وبعض تلك الدولة تخطتنا في مستوى التنمية. 

الدول الدائنة دائما أكثر قلقا من المديونة. هي ليست شركة يمكنها الحجز على أصول شركة مديونة لها.

الأمر مختلف تماما. الدول الدائنة تريد استرداد أموالها ولو جزء منها في أسوأ الأحوال، وليس بإمكانها فعل شيء في القانون الدولي إن تعثرت الدولة عن السداد أو تخلفت عنه. 

الضرر المقابل الذي سيقع على الدولة المديونة هو عدم قدرتها على الاقتراض وتخفيض تصنيفها الائتماني الذي بمثابة "ضربوا الأعور على عينه"!.. وهروب المستثمرين وسحب الأموال من البنوك، وكلها حالات يمكن منعها تماما باقتصاد مغلق لا يسمح بذلك.

لن نصل إلى هذا الحد إطلاقا، نحن نتكلم عن مدى حاجة الدولة الدائنة إلى الدولة المديونة.

توفير استحقاقات الديون بإعادة هيكلتها وتطويل مدد سدادها وتخفيضها، مع فترات سماح يتحقق فيه التعافي، سيغني عن قروض جديدة وتصب في اقتصاد داخلي مع إعادة تدويره بشكل سليم.

الأمر في المتناول إذا عرفنا أن الخليج يمتلك 25.1% من جملة الديون الخارجية، وهؤلاء يمكن التفاهم معهم، وعليهم الانتظار "حين ميسرة".

 يجوز فتح الدفاتر القديمة عن الحروب التي خاضتها مصر بالوكالة عن شقيقاتها في فلسطين، وأفقدتها غير مئات آلاف الضحايا، تريليونات من الخسائر الاقتصادية والمدن المدمرة وموارد شبه سيناء خلال سنوات الاحتلال، والمليارات التي خسرناها من إغلاق قناة السويس وخسارة موارد السياحة من حرب 67 إلى ما بعد حرب 73 بسنوات،

وتوجيه كل الإنتاج الزراعي والصناعي ومداخيل الصادرات للمجهود الحربي وحتى حفلات الفنانين كأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وخفض ميزانيات التعليم والصحة لصالح الحرب وشد أحزمة الشعب على البطون، في حين أقرت قمة اللاءات الثلاثة في الخرطوم عقب هزيمة 67 بشهرين أن كل الأرض المحتلة أراض عربية على الجميع المساهمة تحريرها.

السعودية والكويت وليبيا خصصت بدءا من أكتوبر 67 بناء على قرارات قمة لاءات الخرطوم حوالي 135 مليون إسترليني لمصر والأردن كل 3 أشهر حتى "إزالة آثار العدوان".. والفقرة الأخيرة تعني استمرار المساعدات عدة سنوات لأنها تستهدف تعني التعافي الاقتصادي، على طريقة مشروع مارشال وزير الخارجية الأمريكي لتعافي اقتصاد دول أوروبا الغربية عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد استمر 4 سنوات (1947-1951) وأنفقت الولايات المتحدة خلالها 17 مليار دولار، أكثر من 200 مليار بالأسعار الحالية، حتى عادت عجلة الصناعة والزراعة والإنتاج إلى الدوران. 

لا يجب الخجل من الحقائق. إسرائيل لم تستح المطالبة بتعويضات عن مزاعم ذهب اليهود عند خروجهم من مصر قبل آلاف السنين. 

نملك أوراقا كثيرة وخيارات كثيرة لا يجب أن تجعلنا نغضب ونتوقف عند تصريحات سميح ساويرس.