عمار علي حسن يكتب: الاستبداد أصل الشرور جميعًا (2-3)

ذات مصر

حتى العصر الحديث استخدم العلماء والفلاسفة كلمات أو مصطلحات أخرى للتعبير عن الاستبداد، مثل "الطغيان"، الذي عني به الحكم القسري الذي يهضم الحرية ويخرق الحكومة الدستورية وحكم القانون.

ويقال إن الشاعر اليوناني أرخيلوخوس كان أول من استخدم هذا المصطلح حين أطلقه على الملك جيجيز، لكن هناك من يرد الكلمة إلى القبائل التركية القديمة التي كانت تحيا في تركستان حاليًا واتسمت بالقوة والتوحش، وكان الفرس والروم يسمون بلادهم توران، ومنها جاءت الكلمة Tyrant.

وفي بداية استخدامها لم تكن كلمة طاغية تحمل معنى كريهًا شريرًا، بل ربما كانت مرادفًا للملك والحاكم نفسه، مثلما تدلنا مسرحيات أسخيلوس وسوفوكليس، ومع أفلاطون وأرسطو بدأت التفرقة بين المعنيين، وصارت كلمة طاغية تعني الإكراه والقهر. 

وقد اعتبر أرسطو الطغيان حالة مرضية بالنسبة لليونانيين وطبيعية بالنسبة للأسيويين، وربط بينه وبين سعي الملك إلى تحقيق منفعته الشخصية، حتى لو اضطر إلى استخدام العنف، مع تجاهل مصلحة الشعب. أما أفلاطون فعرف "حكومة الطغيان" بأنها سلطة الفرد الظالم، أو الجائر، حيث يسود الجور الكامل بغير خجل. 

وعرفت الثقافة العربية ـــ الإسلامية مصطلح "الطاغوت"، الذي يعني مجاوزة القدر والارتفاع والمغالاة في الكفر، وبذا يصبح الطغيان هو مجاوزة الحد في العصيان. وبينما اعتبر الإمام مالك أم الطاغوت هو ما عبد من دون الله فإن ابن القيم الجوزية توسع في تبيان مدلول المفهوم فرأى أن الطاغوت هو “كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو طاغوت، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله”. 

واعتبر الفقهاء واللغويون أن "الطغيان" أشد وأعم من "العتو"، لأن الأول ينطوي على إكراه مع غلبة وقهر، أما الثاني فهو المبالغة في المكروه فقط.  

كما ينطوي الطغيان على نقيصتي "الجبر" و"القهر" التي يمكن للمستبد أن يبتعد عنهما في ممارسته، أو لا يكون مضطرًا بالضرورة إلى تنفيذهما كي يمسك بمقاليد الأمور في يده، بل قد لا يلجأ إلى أي تصرفات عنيفة ضاغطة على المحكومين أصلا. ومعنى هذا أن الاستبداد يأتي مغلفًا بأساليب وخطابات ناعمة تغلفه وتخدع الناس به، أما الطغيان فيمارس وفق تنكيل ممنهج بالناس ورغبة دفينة في إيذائهم بدنيًا ومعنويًا. 

والمستبد يمكن أن يتحكم في الأمر ظنا منه أن هذا في مصلحة شعبه، أو أن الظروف تتطلب هذا، وأنه في حاجة ماسة إلى هذا التحكم ولو لبعض الوقت حتى يصل إلى الخير الذي يسعى إليه ولا يصبر الناس عليه حتى يبلغه. أما الطاغية فهو مسرف بطبعه في الموبقات وظلم الرعية والبطش بها، ويقترب أحيانا من التأله، وإرهاب الناس بالتعالي والتعاظم، وعدم التقيد بقانون أو دستور، وتسخير موارد البلاد لإشباع رغباته وملذاته، ورفض الخضوع لأي مساءلة أو رقابة أو محاسبة.

وهناك عدة مداخل لتفسير الاستبداد، أولها نفسي، حيث يعزى الاستبداد إلى نزعة السيطرة أو السادية التي يقابلها خضوع أو مازوخية لدى الأتباع. 

وثانيها نفسي ــــ اجتماعي يضع عبء الاستبداد على المحكومين الذين يستسلمون للعسف والظلم إما عبر الإكراه أو الخداع، إلى درجة أن من يراهم أو يعايشونهم يقول عنهم إنهم لم يخسروا حريتهم بل كسبوا عبوديتهم. 

وثالثها لا يعيد الاستبداد إلى سلوك فرد مستبد بل إلى البنية الاجتماعية التي تنطوي على عناصر اقتصادية واجتماعية غير متوازنة وغير متكافئة تتفاقم من الزمن ولا يلوح في الأفق أي حل أو بادرة لإنهاء هذا الخلل إلا بثورة عارمة، فيسعى النظام السياسي أو تقوم السلطة الحاكمة باتخاذ ما يلزم في سبيل الإبقاء على الوضع القائم وفرضه قسرا ومنع تفجيره. 

وقد حلم الإغريق الأقدمون بنظام حكم يأخذ في الاعتبار مواقف الناس وآراءهم ومصالحهم، فأوجدوا ديمقراطية أثينا، وجنح بهم الخيال إلى التطلع للمدينة الفاضلة، لكن هزيمتهم أمام أسبرطة ذات الحكم العسكري أفقدهم الثقة في ديمقراطيتهم.

وأعطى الرومان مجلسي الشيوخ والنواب قدرة على مراقبة أعمال القيصر، وتعيينه في حال الطوارئ لمدة ستة أشهر على الأكثر، لكن القياصرة كان في أيديهم سلطات واسعة، وكان مجتمعهم يقام على أكتاف العبيد من كل لون، وكل حدب وصوب.

وصنع المسلمون الأوائل قفزة هائلة بمنطق عصرهم وظروفه وأحواله، حين حدد الخليفة عمر بن الخطاب ستة أشخاص ليس من بينهم ابنه ليختار الناس منهم حاكمهم. وحتى حين تحولت "الخلافة الراشدة" إلى “ملك عضوض”.

لم يكن الحاكم يتمتع بشرعية إلا بعد "بيعة" الأمة له، وهذه البيعة إن تدهورت إلى أن صارت أمرًا شكليًا بحتا، لكنها ظلت خطوة نحو أخذ رأي المحكومين في الاعتبار، ثم أخذت الدائرة تضيق حول من يؤخذ رأيهم فيمن يجلس على العرش، وظهر "ذهب المعز وسيفه" وتأرجح الناس بين المغارم والمغانم، كل على حسب موقفه وموقعه من السلطة، ونشط منتجو "الآداب السلطانية" التي إما أنها بررت للسلطان فعله فقهيا وبلاغيًا واجتماعيًا، وإما حاولت نصحه بمواربة ومداراة وتحايل.

(نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى).