عمار علي حسن يكتب: مجاهدة النفس.. رأس العبادة في الإسلام

ذات مصر

هناك ثلاث جبهات للمقاومة، نتحدث عنها دوما، لأنها تفرض نفسها على تفاصيل حياتنا، ألا هي التصدي للعدوان الخارجي، ومكافحة الحكم المستبد، ومواجهة العادات والتقاليد الخاطئة والأفكار الجامدة المتخلفة. لكن هناك جبهة لا تقل أهمية وهي مجاهدة النفس، التي هي أمارة بالسوء، وملهمة بالفجور قبل التقوى، إلا من رحم ربي. وقد ذكرني بهذه الجبهة الصديق العزيز الدكتور محمد حلمي عبد الوهاب، وكتب في هذا على صفحات البديل، فوجدت من واجبي أن أرمم هذا الشرخ، وأسد هذا النقص، مستفيدا من ملاحظته المهمة.

ومقاومة النفس تعني كما يقول القشيري في رسالته الشهيرة: "فطمها عن المألوفات، وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات" وهي في نظره "رأس العبادة"، وجوهر الإسلام وسره الأعظم، مستندا إلى إجابة بعض الشيوخ الثقاة عن معنى هذا الدين بقولهم: "ذبح النفس بسيوف المخالفة".

والنفس لها معنيان، كما يشرح أبو حامد الغزالي في "إحياء علوم الدين" الأول هو جامع قوة الغضب والشهوة في الإنسان، والثاني هو ذات الإنسان، التي توصف بأوصاف مختلفة، بحسب اختلافها في الأحوال. فإذا سكنت تحت الأمر وذايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت "النفس المطمئنة". وإذا لم يتم سكونها وصارت مدافعة للشهوة ومعارضة لها سميت "النفس اللوامة". وإن تركت الاعتراض، وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات، ودواعي الشيطان سميت "النفس الأمارة بالسوء".

ويحفل التراث الصوفي بعبارات أثيرة حول مجاهدة النفس منها: "الراحة هي الخلاص من أماني النفس"، و"سجنك نفسك فإذا خرجت منها وقعت في الراحة الأبدية"، وما يقوله ابن عطاء الله السكندري من أن: "النفس مجبولة على سوء الأدب، والعبد مأمور بملازمة الأدب، فالنفس تجري بطبعها في ميدان المخالفة، والعبد يردها بجهده عن سوء المطالبة، فمن أطلق عنانها فهو شريكها معها في فسادها". ويزيد صوفي آخر هو الجنيد على ذلك بقوله: "النفس الأمارة بالسوء هي الداعية إلى المهالك، المعينة للأعداء". 

ويتوج الأمر بحديث شريف للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: أ"خوف ما أخاف على أمتي: إتباع الهوى، وطول الأمل. فأما إتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة"، ومسك الختام أية كريمة يقول فيها رب العزة سبحانه وتعالى: "وأما من خاف مقام رِبه، ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى" (سورة النازعات/ الآية 40).

وتأديب النفس وضبطها يقوم على أربعة أعمدة هي التوبة والمراقبة والمحاسبة والمجاهدة. والتوبة تعني التخلي عن سائر المعاصي والذنوب، والندم على كل ذنب سالف، والعزم على عدم العودة إليه مستقبلا. وهي بذلك تخلق قوة الإرادة وشدة البأس والقدرة على مقاومة هوى النفس، الذي يضعف ذات الإنسان بقطعه للصلة بينه وبين ربه، وإفساده للعلاقة مع الناس وتخريبها. والمراقبة تعني أن يأخذ الإنسان نفسه بمراقبة الله تعالى، ويلزمها إياها في كل لحظة، وفي كل حركة وسكنة، حتى يتم لها اليقين بأن الله مطلع عليها، عالم بأسرارها، رقيب على أعمالها، قائم عليها، وعلى كل نفس بما كسبت، وبذلك تصبح مستغرقة بملاحظة جلال الله وكماله، شاعرة بالأنس في ذكره، واجدة الراحة في طاعته، راغبة في جواره، مقبلة عليه، معرضة عمن سواه.

والمحاسبة هي إكبار للذات الإنسانية بإلزامها التقوى الدائمة التي إن قلت زادت بعد الحساب، واللوم على التقصير، والعودة مرة أخرى لمصالحة النفس. أما المجاهدة فتعني في مقصدها وغاياتها الاعتدال، والقصد في الغرائز، والسعي لخلق التوازن في النفس البشرية. 

ويرفض الدين الزهو والعجب، فيقول الله في محكم التنزيل: "إنك لا تخرق الأرض، ولن تبلغ الجبال طولا". فالغرور هو أكبر العوائق أمام الوصول إلى الكمال الإنساني، ومن أعظم المهالك، في الحال والمآل. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ثلاث مهلكات: شح مشاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه". فالمرء الذي يغتر بعلمه يكتفي بما لديه، ويتوقف عن الاستزادة من المعرفة، ويسعى أن يكتسب من العلم سلطانا غير سلطانه الحقيقي، وجاها غير ما يفرضه علم العالم على الناس من وقار واحترام.  ولا يجب أن يغتر الإنسان بماله، فيسرف ويبذخ ويتعالى على الناس. ولا يغتر الإنسان بقوته فيظلم، ويخاطر فيهلك. ولا يغتر بحسبه ونسبه، فيتيه على الناس بما لا يتم به التيه والافتخار، فسبحانه وتعالى يقول: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم". ولا يغتر الإنسان بعبادته فيحبط الله أعماله. 

واعتبر الإسلام مداواة الغرور فرض عين، وحدد لإقامته طريقين، الأول أن يعرف الإنسان نفسه: "من نطفة خلقه فقدره"، والثاني أن يعرف الإنسان ربه: "ليس كمثله شيء". كما منع الإسلام أن يمدح الإنسان نفسه، وفي هذا آيات بينات واضحات مثل: "فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى" (النجم/ 32)  و"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم، بل الله يزكي من يشاء، ولا يظلمون فتيلا"، (النساء/ 49). لكن في المقابل ينهي الإسلام الإنسان عن ذم نفسه أمام الغير، ويمنع أن يفرط المرء في الحديث على الملأ عن عيوب نفسه ونقائصها محاولا إظهار التواضع، لأن في هذا مدحا وتزكية لها بطريقة غير مباشرة. وهنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل لفست نفسي". 

ويدعو الإسلام النفس الإنسانية إلى مقاومة الحسد، فهو نقيصة، تنطوي على حقد دفين، وتقوم على دافع سلبي للتغطية والتعمية على نقص الحاسد وضعفه، وعجزه عن بلوغ منزلة المحسود، فيكتفي بالتقليل مما لدى الغير من نعمة ومكانة، ويتقاعس عن الإتيان بأسباب الصلاح والقوة. فالحسد ما هو إلا غيظ كظم لعجز عن التشفي، وضعف عن أخذ الحق في الحال، إما بالصفح والحلم، وإما بالقصاص، فرجع إلى العقل الباطن، فاحتقن واشتد فصارا حقدا وحسدا. ولأجل هذا يقول الله في محكم التنزيل: "ومن شر حاسد إذا حسد" (الفلق/ 5), ويقول الرسول الكريم: "إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب".

وحارب الإسلام خوف النفس من غير الله، الذي يقول لعباده: "لا تخشوهم واخشوني"، ونهى عن الخوف من البشر، مهما علت مناصبهم وزادت قوتهم. كما دعا إلى الانتهاء عن الغضب، الذي يعلى عند انفجاره من "حيوانية" الإنسان، ويخرج الدين والعقل عن سياستهما، فلا يبقي للإنسان نظر ولا فكر ولا اختيار. ولهذا قال الرسول لرجل طلب منه أن يوصيه ولا يكثر حتى لا ينسي: "لا تغضب". وقد سأل الرسول يوما أصحابه: ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا الذي لا تصرعه الرجال. فقال: ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب". 

لكن الإسلام حرص على ألا تفتقد النفس نخوتها، فتسقط في التبلد واللامبالاة، وعمل على بناء النفس الواثقة الثابتة الصابرة المحبة لغيرها، والوفية لخلانها، القادرة على العطاء. وإذا ما بنيت النفس الإنسانية على هذه الفضائل المتوازنة هذه فستؤهل صاحبها لأن يكون سويا وإيجابيا، بما يمكنه من أن يؤدي دوره باقتدار على جبهات المقاومة الأخرى.