عمار علي حسن يكتب: الاستبداد أصل الشرور جميعا ( 1 ـ 3)

ذات مصر

لم يُخلق على هذه الأرض شر مستطير أكبر وأكثر من الاستبداد، فما أن يطل برأسه حتى ينهش جسد المجتمع وروحه بلا هوادة، ليهز البنيان، ويقوض الأركان، ويترك وراءه خرابا فادحا، وعوزا قاهرا، وقهرا متغلبا، وهمما فاترة ونفوسا حائرة، وحزنا دفينا.

والاستبداد هو أحد أشكال الحكم المطلق، الذي يركز القوة أو السلطة في يد شخص واحد أو أيدي حزب واحد أو جماعة واحدة. وتعرفه معاجم اللغة على أنه "الانفراد" و"الغلبة" و"الاغتصاب" و"الاحتكار" بما يخل بمبدأ المساواة الذي لا تستقيم الحياة من دونه، فإن أحيل الأمر إلى مجال السياسة كان هو الانفراد بإدارة شئون المجتمع من قبل فرد أو مجموعة من دون بقية المواطنين. أو تجريد الأمر من الحق الذي يؤسسه، ويقيم بنيان الحكم والشرعية، فتتحول بذلك السلطة إلى سيطرة، وعلاقة الطاعة إلى إكراه وإذعان

ولا يعني الاستبداد في كل الأحوال انتهاك الحاكم للقانون، أو قيامه بتحويل أفعاله وتصرفاته هو إلى القانون، إذ إن أغلب المستبدين يصنعون أو يرعون القوانين التي يقهرون بها شعوبهم، بل قد يعملون على إيجاد نظام قانوني شامل، وفق شرعية أو مشروعية شكلية، يتيح لهم الانفراد بإدارة كل ما يتعلق بالمجتمع. 

كان الاستبداد، الذي يعود إلى الكلمة اليونانية ديسبوتيس التي ولدت منها الكلمة الإنجليزية Despot،  ولا يزال موضوعا أثيرا لدى الباحثين في شتى العلوم الإنسانية، بل هو السؤال المتجدد في أذهان الناس بلا انقطاع، وهو المرض الذي لا تكف عدواه عن الانتشار، وضرره عن التوالد، وبشاعته عن التناسل والتوغل في الأركان والأعطاف كافة. فهو لا يرتبط بالسلطة في أعلى مراتبها، أي بما يقوله ويفعله الجالسون على العرش أو الكراسي الوثيرة العريضة الكبيرة، بل إنه يطاردنا في جنبات الحياة الوسيعة بلا هوادة، وبقسوة ضارية.

فالعامل قد يرى الاستبداد متجسدا أمامه في سلوك صاحب العمل، وفي اللوائح التي تحكم العلاقة بين الطرفين وتهندسها بغلظة. والفلاح قد يلفاه في صلف مهندس الري أو موظف "الجمعية الزراعية" الذي يكلمه من طرف أنفه ويقرر ما يضنيه، ويجده الموظف في تعنت رئيسه المباشر، ومديره العام، ورئيس مجلس الإدارة المسلح بصلاحيات مفرطة، وقد يقابله المشتري من بائع متجلف في السوق، ولاعب من مدربه، وزوجة من زوجها المتغطرس، وابن من أبيه الذي يتصور أنه ما دام قد أنجبه فقد ملك كيانه ومصيره. ويتحدث العشاق عن استبداد الشوق والوله بهم، لا يستطيعون منه مهربا ولا فكاكا، وقد يستعذبون عذابه، ويستلذون باستحكامهه، طواعية وعن طيب خاطر، وهذا هو الاستبداد الوحيد الذي لا يشكو منه الناس، وإن ضجوا منه عادوا إليه راغبين مرحبين. 

من أجل هذا يكون البشر دوما نازعين إلى التحرر من قيود لا تنتهي، ما إن يفكوا واحدا حتى يجدوا الآخر، بلا نهاية ولا انقطاع، حتى لو كان مصدر الاستبداد هو الغرائز الجامحة، والرغبات الطافحة، والميل الدائم إلى تحصيل المزيد من القوة والثروة والجاه. ومن أجل هذا يقول الواقعيون إنه لا توجد حرية كاملة، ولا تحرر دائم، فالإنسان "خلق في كبد" وسيظل كادحا إلى ربه كدحا حتى يلاقيه.

وهناك محاولات لا تنتهي، نظرية وعملية، تطلب عدم الاستسلام بأي حال من الأحوال للاستبداد ومنتجيه وموزعيه، بل إن مقاومته ومواجهتهم فرض عين، وبقدر وجودها واستمرارها وقوة دفعها يكون تواجد الإنسان، وانتصاره للحق والخير في الحياة الدنيا، وانتظاره للجزاء في الآخرة من رب العباد، الذي تنبئنا تعاليمه في جوهرها الأصيل والدفين بأن وزر المظلوم الساكت على الظلم لا تقل عن وزر الظالم، وتجعل أن أعظم الجهاد هو "كلمة حق عند سلطان جائر".

 في الغالب الأعم، جُبلت النفس الإنسانية على "الفجور" وكانت "التقوى" هي الاستثناء دوما، وسعى الفجار، حين تغلبوا، إلى فرض إرادتهم على غيرهم، متحصنين بكل أسباب التجبر، وساعين إلى حرمان الآخرين من كل ما يمكنهم من نيل حقوقهم، والانتصار لحريتهم، وتعزيز كرامتهم.

وبعض الذين أفرطوا في الحديث عن "التقوى" و"خشية الله" نسوا كلامهم، وحنثوا بقسمهم، وخانوا عهودهم، بعد أن صدئت قلوبهم، حين جلسوا على كراسي الحكم طويلا، فصارت أقوالهم عن العدل والرحمة حروفا تطير في الهواء، بينما بقيت أفعالهم عن الظلم والقسوة واقعا يعاني منه الناس فوق التراب وأمام الريح. كما أن بعض الذين وعدوا شعوبهم بالعدل والحرية من خلال احترام القوانين والدساتير، تنصلوا من هذا، وعدلوا في منظومة القوانين أو انتهكوها حين دانت لهم الأمور، وشعروا بالسيطرة التامة على مقاليدها.

وطيلة القرون الغابرة والعالم لا يعرف من الحكم إلا المستبد، تارة باسم السماء، وتارة بفعل الوراثة أو العرق والسلالة، وأخرى بالتغلب والقهر سواء بالجند أو العصبة، كما امتد تسويغ الاستبداد إلى ادعاء المستبدين بأنهم الأكثر علما ومعرفة بصالح الجماعة، وأن العوام يفتقرون إلى الشروط الضرورية لممارسة الحكم وليست لديهم القدرة على فهم الدوافع التي تجعل الحاكم يتخذ القرار على نحو يرونه هم استبدادا بالأمر أو تنكيلا بهم. وقد يدعي المستبد أن شعبه ليس مؤهلا بعد للديمقراطية، أو أن الظروف التي تمر بها الدولة تفرض هذا النمط من الحكم. 

وبناء على هذه المسوغات لم يكن هناك حاكم ومحكومون على مدار قرون طويلة، بل مالك وأقنان، سيد وعبيد، سلطان ورعية، لا حقوق لها إلا ما يجود به من بيده مقاليد الأمر، ولا حريات لها إلا بقدر ما يغفل عنه أو يتركه عفوا أو استهانة.

( نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)