محمد حماد يكتب: الخوفُ روح الاستبداد

ذات مصر

في مجموعته القصصية «بيت سيئ السمعة» قصة قصيرة اسمها «الخوف»، يقدم فيها الأديب الكبير «نجيب محفوظ» درساً عميقًا من الحارة العتيقة التي كانت ترزح تحت بلطجة جماعة الفتوات، فتحولت إلى مجتمع ذليل مهان، يبحث كلُ فردٍ فيه عن السلامة الخاصة، والخلاص الفردي، واستنامت الحارة تحت تلك العيشة، في انتظار تدخل السماء، حتى ظهر البطل المرتقب، والمخلص المنتظر، الضابط الشجاع أبو قلب حديد «عثمان الجلالي».

يبدأ «الجلالي» في الضرب بيدٍ من حديد على الفتوات وسط إعجاب ودهشة وتشجيع أهل الحارة، الذين بدأوا يتغنون بفتوته وقوته وتصديه لتلك الجماعة التي حاولت أن تسيطر بالبلطجة على الحارة، وعلى قلب «نعيمة»، كلما حلَّ على الحارة بلطجي راح يتقرب إلى «نوارة» المنطقة، التي ما فتئت يأتيها الخطاب، فتوة من بعد فتوة، كلهم يطلب يدها، ليأخذها لنفسه.

يظهر «الجلالي» المخلص فيقضي على سلطة الفتوات والبلطجية، وينفرد وحده بالقوة، ويتسلطن على كرسي الفتونة، ويتوحد معه، حتى يتحول خطوة وراء أخرى إلى فتوة جديد أشد بطشًا، فيطمع ـ كما طمع البلطجية من قبل ـ في أن يأخذ «نعيمة» لنفسه، من دون شريك.

**

قبل ستين سنة على كتابة «محفوظ» قصة «الخوف» كان «عبد الرحمن الكواكبي» يكتب على صفحات كتابه الأشهر «أن الخوف هو روح الاستبداد»، لأنه الشراب الرسمي للطغاة يعطيهم قوة الاستمرار في طغيانهم، يحرصون على نشر الرعب والخوف بين أفراد الرعية، لأنّهم حسب الكواكبي: (يعلمون يقينًا أن الخوف إذا ما استبد بالنفوس يجعل قابليتها للاستسلام مؤكدة، وسيرها في ركب الاستبداد محتمة).

الأصل أن المستبد لا يولد في يده شهادة ميلاد مدون فيها في بند الصفة: «ديكتاتور مستبد»، بالعكس، هناك الكثير من الديكتاتوريات صنعت نفسها خطوة وراء أخرى، وكانت المادة الخام المستخدمة في صناعة الاستبداد هي مادة الخوف الأولية، يضاف إليها كثير من خامة النفاق الأصلية، بهما يرتفع بناء كل ديكتاتور، وبهما تمتد جمهوريته ويشتد استبداده.

 يتغذى الديكتاتور على الخوف، ويطول عمره بالنفاق، تقرأ في «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» أن المستبد يستمد قوته من ضعف شعبه، وهوانه على نفسه، لا يتطاول في استبداده بغير معاونة المحيطين به، رجال وأشباه الرجال، والدمى البشرية التي يحركها كما يشاء، لا تحرص على شيء قدر حرصها على المنفعة الشخصية والمصالح الخاصة. 

الديكتاتور كما تنبئنا التجارب التاريخية هو الابن الشرعي لزواج غير شرعي بين الخوف والنفاق، وهو النتيجة الطبيعية للمجتمع الخانع، الذي يخشى دفع ضريبة الكرامة، يستعبد نفسه للخوف، فيبيع حريته لقاء أمنه، وهي الحالة التي يصفها محفوظ فيقول: (سألت شيخي: متى يصلح حال البلد؟، فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة).

**

البداية تكون دائمًا مع تنازل المجموع عن إرادته لإرادة فرد يرى فيه المخلص الذي سرعان ما يستفحل أمره، بعدما يشتد عوده، ويتمكن من قوة موقعه، ليعود الشعب يكابد الأمرين من هذا الذي تصوره في يوم من الأيام مخلصًا والمنقذ الوحيد فإذا به يصحو على مرحلة استعباد تمت باسم الرضا الشعبي، وعنوانها الوحيد هو المستبد الجديد.

السؤال الذي يترك «نجيب محفوظ» إجابته لفطنة قارئ قصة «الخوف» هو: (هل حصلت «نعيمة» على حريتها حين تخلصت من الفتوات لينفرد بها الفتوة الأوحد).

أديب عالمي آخر هو «باولو كويلو» له قصية قصيرة بعنوان «المشنقة» تحكي عن بلدة كانت طيبة، والناس فيها على خير حال، يفعل مواطنوها ما يحلو لهم، تسير الأمور فيما بينهم على أفضل ما يكون، لم يكن بالسجن أحد، ففكروا أن يحولوه متحفًا.

كان القاضي يقضي معظم وقته في المنزل، ولا يذهب إلى المحكمة إلا لتغيير الجو ومقابلة الأصدقاء القدامى.

**

كان الجميع مرتاحًا لحياة خالية من الخوف، باستثناء الرئيس العمدة، الذي ظل يبحث عن السيطرة فلا يجدها، وظل همه الأول أن يخترع السلطة، فبادر إلى سن عدد من القوانين العبثية التي تجاهلها الناس وانصرفوا عنها، فتفتق خبث العمدة عن الحل السحري.

جلب عددًا من العمال من البلدان المجاورة، وأعطاهم أوامر ببدء العمل على الفور في الميدان الرئيسي للبلدة، بعد أن أحاطوا أنفسهم بأكسية ضخمة من القماش بحيث لا يزعجهم في عملهم أحد، والواقع أن أحداً لم يهتم بما يصنعون.

على بعد أمتار من المكان كان المارة يسمعون صوت بعض المطارق، أو مناشير الخشب، أو أحد الملاحظين وهو يوجه العمال، وفيما عدا ذلك لم يكن هناك ما يلفت النظر فيما يصنعون، وحده العمدة الذي ظل يراقب تطور العمل بشوق وإعجاب، حتى جاء موعد الافتتاح.

جرت دعوة المواطنين لحضور الحفل الذي كان بسيطًا ومهيبًا، ووسط فضول متزايد من المواطنين أزاح العمدة الستار عن العمل الجديد، مد الجميع أبصارهم، وتيقنوا منها، تهامسوا ثم استوعبوا، نعم: إنها مشنقة.

لاقت المشنقة استحسان المواطنين، وكان الحبل الذي يتدلى منها مزدانًا بقطعة حديد لامعة، لم يعلق العمدة بكلمة، وآثر المواطنون أيضًا الاكتفاء بالمشاهدة، وانفض الاحتفال، وانصرفوا.

**

في أقل من أسبوع تزايدت الهمهمة وتعددت الأسئلة عن سبب وجود المشنقة، وبدأ أهل البلدة يتهامسون فيما بينهم: لابد أن بيننا مذنب، مجرم، قاتل، من يكون؟، هل هو أنا؟، عليَّ أن أحمي نفسي، الهجوم خير وسيلة للدفاع، سأبدأ بهم قبل أن يتعشوا بي، وتغير شكل الحياة.

استطالت طوابير الانتظار أمام كاتب العدل أطول من طوابير الخبز، شرع الناس في تسجيل كل المستندات التي كانوا فيما مضى يستغنون عنها بكلمة الشرف، وشهادة الشهود.

بدأ القاضي في الذهاب إلى المحكمة مرتين في الأسبوع، ثم كل يوم، ثم في فترة الظهيرة، ثم عين مساعدين، وبدأ الناس يتقربون إلى العمدة، ويتزلفون له ويستشيرونه في أمور القانون وغيرها، خشية أن يقعوا في مساءلة قانونية.

 تقول القصة: إن المشنقة لم تستخدم قط، لكن وجودها في الميدان كان كفيلاً بتغيير كل شيء.

**

تنتهي القصة وتستمر الحياة على منوالها، صاحب الرياسة يتحكم في الناس بإشاعة الخوف بينهم، بتفريقهم وراء مصالحهم الذاتية، بإيقاظ روح المصلحة الشخصية وتنميتها على حساب المصلحة العامة، كل فرد يقول نفسي أولًا، وهكذا استطاع أن يتحكم فيهم أكثر، وأن يستذلهم أكثر.

 الخوف الذي شاع بين جنبات البلدة التي كانت آمنة مطمئنة، أحال الحياة فيها إلى جحيم على الأرض بعد أن كانت جنتهم أنهم يعيشون آمنين بلا خوف، لم يلحظ الناس ما فعله طالب الحكم بينهم، استحسنوا صنع المشنقة، ولم يفهموا أنها هي الفزاعة الذي سوف تنغص عليهم حياتهم، حين استيقظت مخاوفهم، زادت شرورهم، وعاد القاضي إلى عمله، وعاد السجن ليمتلئ بالمساجين، وعاد العمدة إلى ما كان فقده من سيطرة وتحكم فيهم.

هو الخوف فيه حياة الاستبداد، وفيه موت المستعبدين، هو روح الاستبداد، وسبب استمراره، وتغوله، هو مشروب الطغاة الرسمي، وهو وسيلة بقائهم على كراسي السلطة، وهو سبب تسلطنهم فوق مقاعد التسلط، وصدق الكواكبي ومحفوظ وكويلو حين رأوا ببصيرة نافذة أن الخوف هو روح الاستبداد.