عمار علي حسن يكتب: الاستبداد أصل الشرور جميعا (3 ـ 3)

ذات مصر

في عام 1957 صك ويتفوجل مصطلح "الاستبداد الشرقي" ليصف أنظمة الحكم التي تعيش ما يسمى بـــ"نمط الإنتاج الأسيوي" وفق الصياغة الماركسية، حيث المجتمعات النهرية "الهيدروليكية" التي تتحكم فيه السلطة عبر جهاز بيروقراطي مركزي في تنظيم الري، ولا يجد المزارعون بدا من طاعتها في صمت وخضوع، حتى يزرعوا أراضيهم، أو يجدوا ما يقيم أودهم.

لكن الغربيين أنفسهم لم ينجوا من الاستبداد إلا في القرون الثلاث الأخيرة بعد أن ظلوا قرونا يرزحون تحت أغلال التحالف البغيض بين السلطتين الدينية والزمنية، أو الملوك وبابوات الكنيسة. لكن دخول أوروبا عصر النهضة والأنوار بعد الثورة الإنجليزية 1688 وبعدها الثورة الفرنسية 1789 وإبرام "عقد اجتماعي" بين الشعب والسلطة، جعلها تنفض عن جسدها غبار استبداد القرون الوسطى، بينما ظل الشرق بما في ذلك بلاد الصين والهند، يعاني من طغيان مقنع مستمر فادح وجارح.

 وقد استنام أغلب الناس لهذا وظنوه قدرا لا فكاك منه، ولم يحلموا بأكثر من أن يتمتع المستبد بقدر من العدل، ويرعي مصالح الخلق، ويتفهم حاجاتهم الإنسانية المتجددة، ولهذا اعتقد جمال الدين الأفغاني أن المستبد يمكن أن يشاور أهل الخبرة بغية اكتمال الأخلاق ووحدة الكلمة واجتماع القوة لبناء مشروع متكامل للأمة، حتى لو حمل الناس على ما تكره مؤقتا. وقال الإمام محمد عبده قوله الشهير: "إنما ينهض بالشرق مستبد عادل". وهذه المقولة تحمل في باطنها بذور فسادها وفنائها، فالعدل لا يستقيم مع الاستبداد، والأخير لا يجب أن يكون قدرا محتوما، أو حتمية سياسية واجتماعية لا مهرب منها، لأن ذلك يتناقض مع رسالات السماء، وطبيعة الأشياء، وفطرة البشر، والمسار الأفضل التي يجب أن تسلكه الحياة في طريقها إلى التقدم، الذي لا يجب أن يتوقف.

وهناك جذور لفكرة "المستبد المستنير" و"المستبدل العادل" أو "الطاغية الخَيِّر" إذ بدأت في أوروبا في عصر التنوير، قائمة على تصور أن الحاكم يمكنه أن يحمل المطالب التي انطوت إليها الأفكار الفلسفية آنذاك حول الفرد والعقل والطبيعة والسعادة والتقدم. ويُتخذ من فردريك الثاني ملك بروسا ( 1740 ــــ 1786 م) نموذجا لمثل هذا الحاكم، حيث كان يعتبر نفسه خادما للدولة، وقبل أن يحاسب أمام شعبه، وقامت بحركة إصلاحات واسعة في مختلف مجالات الحياة. لكن التطور الإجتماعي في أوروبا تجاوز هذه الفكرة مع رسوخ العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، والذي انتهي بجعل الأمة هي مصدر السلطات، وهي التي تأتي بالحاكم وتذهب به. 

لكن ما ذكره عبد الرحمن الكواكبي في كتابه المهم "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" يبدد إمكانية تواشج الاستبداد مع العدل، حيث يصف في عبارة دالة ي الاسـتـبـداد بأنه " يقلب الحـقـائـق فـى الأذهـان ، فـيَـسـُوق النــاس إلـى إعـتـقـاد أن طـالـب الحـق فـاجـر، وتـارك حـقـه مُطـيـع، والمُشـتـكــي المُتـظلـم مُفسـِد، والنـبـيـه المُدقــق مُلحـد، والخامـل المسكين صالـح، ويُصبح - كذلك - النُّصْح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهـامـة عتوّا، والحميّة حماقة، والرحمة مرضاً، كـمـا يعتـبـر أن النـفــاق سياسـة والتحايل كيــاسـة والدناءة لُطْف والنذالة دماثة!

وقد عرفت القواميس السياسية الحديثة والمعاصرة مصطلحا أكثر إجرائية وتحديدا وعمومية  للاستبداد، وهو "الدكتاتورية" التي تعني حكم الفرد المقترن بالتعسف، وقد يكون حكما عسكريا ينشأ حين يتمكن الضباط وجندهم من الاستيلاء على السلطة، وقد يكون حكما مستندا إلى طغيان الحضور الشخصي لزعيم يحظى بجماهيرية جارفة وكاسحة، على الأقل في بداية الجلوس على الكرسي الكبير، والتنعم بصلاحياته المفرطة.

ومصطلح الدكتاتور روماني الأصل، ظهر في البداية ليدل على منصب حاكم من النبلاء يرشحه أحد القنصلين بتزكية من مجلس الشيوخ، ويتمتع بسلطات استثنائية تجعل الدولة خاضعة له في أوقات الأزمات على حساب توزيع السلطة بين قنصلين متساويين وموظفين كبار ومجلس الشيوخ والمجالس العامة. 

وهناك ثلاثة أمثلة ناصعة على الدكتاتورية المعاصرة، الأول هو بينيتو موسوليني (1883 ـ 1945) في إيطاليا، الذي تصرف كقيصر روماني عتيق، ولم يتقيد بتفويض ولا قانون لاسيما منذ عام 1925، وأطلق على نفسه اسم "الدوشه" أي الزعيم، وتحكم في مقاليد الأمور بيد من حديد عبر حزبه الفاشي. أما الثاني فهو أدولف هتلر (1889 ـ 1945) الذي وصل إلى الحكم بواسطة الانتخابات لكنه انقلب على الديمقراطية وقبض على الزمام كله بحزبه النازي وطغيان شخصيته، وقاد بلاده إلى الهلاك في الحرب العالمية الثانية. والثالث هو جوزيف ستالين ( 1878 ـ 1953) الذي انقلب على مبادئ لينين وحكم الاتحاد السوفيتي المنهار ثلاثين عاما بالحديد والنار، وأمر بتصفية معارضيه أو ترحيلهم قسريا ونفيهم إلى سيبريا.

لكن هذه الأمثلة الكبرى سبقتها وتخللتها وأعقبتها دكتاتوريات أخرى عديدة في مشارق الأرض ومغاربها، لاسيما في بلدان العالم الثالث، من أمثال عيدي أمين في أوغندا، وبوكاسا في أفريقيا الوسطى والذي اشتهر بتفضيل لحوم الأطفال، ومحمد رضا بهلوي شاه إيران، وصدام حسين في العراق، وحافظ الأسد في سوريا، ومعمر القذافي ليبيا، والحكام المتعاقبين في كوريا الشمالية، ودكتاتوريات عديدة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا قبل أن تهب عليها رياح الديمقراطية. 

ورغم أن الموجة الخامسة من الديمقراطية أخذت في التمدد عالميا في ركاب "الربيع العربي" إلا أن الاستبداد لم يسقط تماما من على سطح الأرض، لكنه يتوشى بقلائد زينة يحاول بها أن يسوق منظره القبيح إلى الناس، فيتحدث المستبدون عن الإصلاح والحرية والشفافية والرأي العام، لكنهم أفعالهم تناقض أقوالهم تماما، وإن كانوا لا يستطيعون المجاهرة بها.

بل نجد أن الديمقراطيات الحديثة والمعاصرة نفسها لا تخلو من استبداد في الواقع، وليس في القوانين والتشريعات والدساتير والإجراءات السياسية. كأن يقال إن "المركب الصناعي  ـــ العسكري" هو المتحكم في صناعة السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة، أو أن الطبقات والشرائح المهيمنة هي التي تتحكم في توجيه نتائج الانتخابات إلى الوجهة التي تحقق مصالحها، أو أن الإعلام يمكن أن يتلاعب بالعقول ويأخذها إلى حيث يريد من يتحكمون فيه ويدفعون له أو يسخرون طاقته في تشكيل الرأي العام على النحو الذي يريدونه. 

وقد سبق أن تناول جون سيتورات ميل في مقالته الشهيرة "عن الحرية" قضية "استبداد الأكثرية" التي رأها ليست أقل وطأة من استبداد الحاكم، لأنها تقيد "الاستقلال الفردي" لحساب "الرأي الجمعي" ولذا من الضروري أن تجد الديمقراطية وسائلها الناجعة في حماية "الأقلية" من طغيان الأغلبية، فهو رغم إيمانه بحتمية الديمقراطية وصواب مسلكها إلا أنه لا يغض البصر عن الشرور التي تصحبها، ومنها أن الأكثرية يمكن أن تختار السخفاء للحكم، لأن الجماهير تمقت ذوي الشخصية المستقلة أو المبدعة أو الفذة، وتنبذهم لأنها لا تفهمهم.

وأرد المستبدون أن يخففوا من وطأة بضاعتهم الثقيلة، ومنظرها الكئيب، فطرحوا شكلا شموليا لنظام الحكم، تسيطر فيه الدولة سيطرة كاملة على المجتمع، وتتحكم في توجيه كافة الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولا تقبل أن يشاركها أحد في هذا الدور، إذ إن الشموليين يشككون دوما في التعددية التي هي إحدى الأركان الأساسية للديمقراطية.

ولذا يستخدم القادة الشموليون وسائل قمعية تجور على حرية التعبير، وتخنق الأفكار والأراء المخالفة لهم، وتفسح الطريق وسيعا ومعبدا أمام نشر أيديولوجياتهم هم، لاسيما أن وسائل الإعلام تكون في قبضة أياديهم، بل يتحكمون في تحركات الناس وتحديد مصائرهم الصغيرة، وتفاصيل حياتهم اليومية، واحتياجاتهم المتجددة.

وقد تبلورت الشمولية في صورة ظاهرة كاسحة ماثلة للعيان والأذهان، متمثلة في "الفاشية" و"الشيوعية" وهما رغم اختلافهما في الأسس الفلسفية، وكذلك المقولات المعيارية والتجريبية التي تفسر الحياة الإنسانية ومسار البشر، إلا أنهما زعما اكتمال المبادئ التي يستندان إليها، والتي تقوم على العلمانية، والحتمية التاريخية، والبحث الدائب عن نظام أخلاقي أو فلسفي جديد للعالم، ينهاهض حركة الاستعمار والاستعباد وفائض القيمة التاريخي. وهناك أيضا "الماوية" التي مزجت بين الشيوعية وتعاليم الكنفوشية وتقاليد الحضارة الصينية وموروثها الشعبي.

وقد راق هذا الطريق لكثير من نظم العالم الثالث، لاسيما في ركاب حركات التحرر من الاستعمار، فرأت أن سيطرة الحزب الوحيد، وترجمة أحلام الزعيم الأوحد، هي أقصر الدروب لتحقيق الازدهار والتنمية، عبر التأميم وتعميق التصنيع وامتلاك التقنية المتطورة، وهي عملية تحتاج إلى تعبئة الجماهير حولها، دون السماح لها بالتعبير عن اختلافاتها المنحدرة من عناصر شتى.