محمد حماد يكتب: في وداع «العم جورج» رجل البحث عن المشتركات

ذات مصر

قليلٌ هؤلاء الذين إذا قابلتهم يتركون فيك أثرًا طيبًا من اللحظة الأولى، وأقل منهم هؤلاء الذين يظل أثرهم فيك ـ وفي كل من تعاملوا معهم ـ حتى بعد الرحيل، العم جورج إسحق على رأس هؤلاء جميعًا.

وقليلٌ هؤلاء الذين يمكن أن تختلف معهم، ولكنك لا تستطيع أن تختلف عليهم، من بين هؤلاء العم جورج اسحق.

ظل يمسك منطقه الخاص في التعامل مع قضايا الوطن، وهو شيخ طريقة لا يباريه فيها أحد، قادر على التجميع، عازفٌ عن كل ما يفرق بين القوى الوطنية، ينضم إلى حزب العمل، يلبي دعوات حتى هؤلاء الذين يختلف معهم في الفكر والسياسة، لكن طبيعته تأبى عليه إلا أن يحرص على البحث عن المشتركات وإن صغرت، ويفتش عن نقاط التلاقي وإن ابتعدت.

ولم يكن غريبًا أن تجد في وداعه كل هذا الطيف السياسي المصري الذي يجمعه محبة العم جورج، وتقدير الجميع لأدوارٍ أداها باقتدار ومحبة وتفاني.

حتى يوم رحيله ظلت السمة الرئيسية لمسيرة جورج اسحق أنه رجل البحث عن المشتركات بامتياز، وقد اتسع جهده وعطاؤه وتعددت دوائر معارفه ورفاقه باتساع رقعة الحياة السياسية في مصر طوال نصف القرن الماضي.

**

الشعور الأول حين تلتقي جورج اسحق أنك أمام شخص قريب إلى النفس، يمتلك مقدرة عالية على التواصل مع الناس، مقبلٌ على الآخرين، قادر على نسج مشاعر المحبة بتلقائية وسهولة كأنها طبيعته التي طبعت نفسه عليها.

كأن أول تعرفي على العم جورج في أعقاب اختياره أول منسق عام لحركة كفاية، لا أذكر بالضبط المكان الذي التقينا فيه، لكن كنا في مناسبة من تلك التي يحضرها جمع من السياسيين والكتاب والمثقفين والصحفيين.

وأذكر أني توجهت إليه لحظة رأيته وقدمت له نفسي، ثم قلتُ: أنا أحبك في الوطن، فقال مُرحبًا وعلى وجهه ابتسامة صافية: وأنا من قراءك في جريدة العربي التي تعتز بها كل القوى الوطنية، ونعتبرها في كفاية جريدتنا. 

ثم اقترب مني كأنه يريد أن يهمس في أذني وقال: هذا لا يمنع من أن أذكر لك رأيي فيما تكتب بصراحة، قلت له: طبعًا أتشرف يا أستاذ، فضحك وهو يقول: الحق أن عمودك الأسبوعي الذي تكتبه تحت عنوان "سؤال بريء"، هو على الحقيقة ليس سؤالًا، وليست فيه أي براءة، وضحكنا ونحن نتعانق بودٍ ومحبة صافية.

في كل مرة كنا نتقابل فيها كأنا لم نفترق، يبدأ الحديث من حيث انتهينا في آخر لقاء، والحق أنه هو صاحب الفضل في استمرار التواصل المحبب معه مع تباعد اللقاءات، وقلتها خاصة في السنوات الأخيرة.

**

كان اختياره لموقع المنسق العام للحركة من بين الموقعين على تأسيس كفاية اختيارًا عبقريًا، كما كانت الحركة نفسها واحدة من تجليات النضال الشعبي المصري الذي ظل يبدع على طول تاريخنا الحديث في صناعة تيار وطني جامع لشتات الحركة السياسية، وطارحًا قضية التغيير على جدول أعمال الوطن.

لم تكن مصادفة أن يكون جورج اسحق هو أول منسق عام للحركة الوطنية للتغيير، وقد صار تاريخها مرتبطًا باسمه أكثر مما ارتبط بغيره من الأسماء التي تتابعت على موقع المنسق العام لحركة كفاية.

تحمَّل بقلب جسور مخاطر ومصاعب ضربة البداية، وتصدى لمسئولية الصدارة في وقتٍ يتراجع فيه الكثيرون، في فترة كانت ذاخرة بمعاني ودلالات كثيرة تصب كلها في صفحة هذا الرجل الذي يحمل الوطنية بين جنبيه كابن بلد أصيل، وبدون تكلف ولا تصنع، كأنها سجيته التي فطر عليها. 

أن تتجاسر مجموعة صغيرة من المثقفين على كسر الطوق، واختراق دوائر الصمت المفروضة على الجميع، فتنزل إلى الشوارع بوسط البلد، تهتف ضد النظام الحاكم، وتعلن رفضها التمديد للرئيس، وشجبها مشروع التوريث لنجل الرئيس، كانت تلك شجاعة قلوب يملؤها محبة الوطن، ويحدوها الأمل في تغييره أوضاعه إلى الأفضل.

أذكر أن أول مشاركاتي كانت في واحدة من هذه التظاهرات قرب ضريح الزعيم الوطني الكبير سعد زغلول، وكان جورج اسحق هو واسطة العقد ضمن هذا العدد المحدود من قيادات وكوادر ورموز حركة كفاية، وظلت قوات الأمن تحاصر المتظاهرين حتى حصرتهم في مربع صغير ومساحة حركة ضيقة حتى اضطرتهم إلى التفرق في الشوارع الخلفية بعد أن قبضت على البعض منهم.

**

امتلكت حركة كفاية جسارة الاحتجاج في مواجهة مباشرة مع رئيس الجمهورية، ووقفت بكل وضوح ضد مشروع توريث الحكم لنجل الرئيس، وصنعت زخمًا متواصلًا ومتصاعدًا للكفاح السياسي السلمي ضد الاستبداد والفساد.

كان جورج اسحق ورفاقه في حركة كفاية يدركون الدور الطليعي الذي حملته الحركة وتحملت مخاطره منذ اللحظة الأولى لانطلاقتها، وتجده يؤكد ـ في حوار صحفي معه بمناسبة مرور عام على تأسيسهاـ أنها تمكنت خلال أشهر قليلة من "كسر حاجز الخوف لدى المواطن المصري، واقتناص حق التظاهر السلمي دون إذن من السلطات حسب الدستور، فلم تعد هناك خطوط حمراء"، وكان الهدف واضحًا أمام عينيه:" تحريك الجماهير للمشاركة في مظاهراتها، رغبة في الوصول بهذه المظاهرات إلى الأرقام المليونية".

ولا شك أن ثورة يناير سنة 2011 هي على الحقيقة المصب الكبير الذي تجمعت عنده روافد الحركة المصرية من أجل التغيير وأخواتها، التي ظلت تحفر في الصخر من أجل قطع المسافة بينها وبين جموع الشعب، وهيأت عملية تتابع المظاهرات نفسية المواطنين في بروفات خروج على النظام مستمرة طوال السنوات من تأسيس حركة كفاية حتى انطلاقة الثورة يوم 25 يناير، وتتابعت من بعده المليونيات التي حلمت بها حركة كفاية.

كانت كفاية وعلى رأسها منسقها الأول هي من دقت أول مسمار في نعش نظام مبارك ومهدت الطريق إلى الإطاحة به في ثورة 25 يناير 2011، انتشرت في ربوع مصر حتى وصلت إلى كل المحافظات تقريبًا، وانبثقت عنها حركات مختلفة تعمل على أرضيتها السياسية وتتبنى مطالب فئوية خاصة في نفس الوقت فنشطت حركات تحمل اسمها في أوساط شبابية وصحفية وعمالية وطلابية وبين أساتذة الجامعات.

**

كان جورج اسحق أكبر من كل اختصار يحصره في قولهم: سياسي مخضرم، وشخصية وطنية بارزة، وناشط حقوقي كان عضوًا بالمجلس القومي لحقوق الإنسان ورئيس لجنة الحقوق المدنية والسياسية بالمجلس.

يلخصونه في كلمات باردة لا حياة فيها، لا تعبر عن القيمة الحقيقية التي تمثلها تلك الرحلة الطويلة، بمحطاتها المتعددة، وإحباطاتها المتكررة، وانتصاراتها المبتورة، كيف يمكن لهم أن يصوغوا معاني تجدد العزم، وإحياء الإصرار بعد كل إخفاق، وكيف يمكن لتلك الكلمات المختصرة أن تغوص في تقييم تلك الأدوار المتعددة التي قام بها أو انتدب إليها أو بادر إليها.

لا يمكن أن تستوعب هذه الأوصاف للدور الذي لعبه جورج اسحق إلا بالاطلاع على حقيقة الدور الذي قام به جيل كامل ولد من رحم الاعتراض على السلطة، ودفع ضريبة مواقفه وانحيازاته واختياراته وحتى أحلامه دفعها من عمره وصحته وجهده وكل ما يملك.

الرجل الذي بدأ حياته المهنية كمدرس للتاريخ، انتهت حياته العملية كواحد من صناع التاريخ، وسيبقى اسمه خالدًا في صفحة تاريخ الاحتجاج السلمي ضد السلطة في مصر.

سيبقى درس جورج اسحق ورفاقه في حركة كفاية يتلخص في أن مصر اليوم ـ وكما كانت بالأمس ـ في أشد الحاجة إلى تيار وطني جامع ينبني على المشتركات وهي كثيرة، ويحافظ على الحد الأدنى من البديهيات الوطنية، في زمنٍ باتت المسلمات تحتاج إلى إثبات وبراهين وحوارات عقيمة لا فائدة ترتجى منها وسط أجواء من الحجاج والنقاشات أكثرها هراء، وأقلها المفيد.