حسين القاضي يكتب: البُعد النفسي وانتشار التطرف

ذات مصر

تتطور سمات التطرف في ضوء المعطيات الجديدة، والفوارق الكبيرة بين موجة الإرهاب في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وبين الموجة الحالية، وبينهم اختلافات عديدة، أهمها: عدم اعتماد المتطرف على بنية فكرية، وعدم الاعتماد على التواصل والاحتكاك المباشر، فموجة الإرهاب قديما كانت تعتمد على بنية فكرية تبدأ من التشدد إلى التطرف غير العنيف، ثم إلى التطرف العنيف، ولكن بات الآن الاستقطاب يعتمد على اجتذاب النفسية المحتقنة والمنفجرة من خلال الاعتماد على الأبعاد النفسية.

وهذا التراجع الفكري على حساب بروز الجانب النفسي أدى إلى اختزال مدة التجنيد في فترة تجنيد للعضو قد تستغرق عدة ساعات، فالمتطرف ليس في حاجة إلى حوارات ومجادلات فلسفية وفكرية، وليس أدل على ذلك من أن الإرهابي عبد الرحيم المسماري، اعترف بأنه انضم إلى "داعش"، لمجرد سماعه نشيدا ثوريا، ولذلك فإن ضياع الحقوق والعدالة غير الناجزة، والبيروقراطية التي تعطل المصالح اليومية للمواطن لها تأثير في خلق نفسية محتقنة يسهل توظيفها نحو التطرف بأسرع مائة مرة من لو أن الشخص مكث شهورا يقرأ كتابا متطرفا.

في ضوء المتغيرات الجديدة التي لحقت بظاهرة التطرف الديني يأتي الاهتمام بالبعد النفسي كأولوية مهمة، في ظل غياب الاهتمام الواضح بهذا البعد، لا سيما مع نجاح التنظيمات المتطرفة في استقطاب النفسية الثائرة المحتقنة من الأوضاع الاقتصادية والسياسية والتعليمية.

فالواضح أن المتشدد أو المتطرف يشعر نفسيا بأن وجوده على المحك، وأن المستقبل لن يكون له ولأبنائه فينعكس ذلك على خلق حالة نفسية محتقنة يتخذ من خلالها مواقف حادة، وممارسات متشددة أو عنيفة تحفظ له -من وجهة نظره- وجوده ومستقبله وآخرته.

وقد توصلت دراسة منشورة إلى أن تجربة قام بها عدد من الباحثين في عام 2012 تضمنت تعريض مجموعة من الليبراليين والمتشددين لسلسلة من الصور الإيجابية والسلبية على شاشة كمبيوتر مع تسجيل حركات أعينهم؛ اتّجه الليبراليون لتتبع الصور الإيجابية والممتعة، بينما اتجه المحافظون (المتشددون) إلى تأمل الصور المهددة والمزعجة، مثل حطام السيارات والإصابات وغيرها، وهو ما يطلق عليه علماء النفس اسم "التحيز السلبي" الذي يقوم على أنه عندما ينحاز الانتباه نحو الجانب السلبي، تكون النتيجة تقييمًا مفرطا للتهديد، والنظر إلى العالم بوصفه مكانًا مخيفا للغاية، وهو ما يفسر اتجاه العديد من وجهات النظر إلى تجذر الخوف، الخوف من الإرهاب ومن الفقر وغير ذلك.

يضاف إلى ذلك أن لافتات الاستفزاز اليومي للهوية الدينية التي يتعرض لها الإنسان -أعني هنا المسلم تحديدا- تجعل هناك حالة من الاغتراب متنامية لدى المتطرف، الاغتراب بينه وبين النسق الاجتماعي في بيئته، وهذه الحالة الاغترابية تترسخ في وجدانه، وتؤدي إلى اضطرابات نفسية، وشحن نفسي، تسبب انحرافه نحو التفسير الأحادي، وقبوله للصدام، والانقياد لأي فكرة سطحية حماسية حركية، لا يكون فيها إعمال للعقل، ولأجل هذا فإن التعامل مع ظاهرة التطرف تعاملا منفصلا عن الواقع الاقتصادي والسياسي، والعوامل الخارجية المختلفة يؤدي إلى فشل المقاربات المقدمة في اتجاه محاربة التطرف، طالما هنا إحساس في مجتمع ما بانعدام الأمن، أو التميز الطبقي، أو القلق الاجتماعي.

فالأوضاع المأزومة تخلق نفسية محتقنة، تميل إلى العدوانية، كطاقة انفعالية وشحنة صدامية لابد من تفريغها، فيبحث المتطرف عن كبش فداء، حتى إن لم يجد كبش فداء يمكنه تفريغ هذا العدوان على نفسه دفاعا عن معتقداته الدينية وأفكاره الأيدلوجية والعيش بين (تنظيم) يشعر معه بالراحة والطمأنينة والانتماء، ويكون متنفسا مهما عما في داخله.

وليس من شك في أن صاحب النفسية المحتقنة يتميز عن غيره بسمة الإسراع والاستجابة الفورية العنيفة تجاه أي موقف أو قرار أو حدث يختلف مع تفكيره وأطروحته وتنظيمه، ومن هنا فإن اتساع مساحة حرية الرأي والحوار وقبول الرأي الآخر وعدم تسفيه من يحمل رأيا متناقضا أو معارضا أو ناقدا، بات ضرورة ملحة وليس ترفيها.

وللمرحوم الدكتور شاكر عبد الحميد دراسة مهمة بعنوان: (التفسير النفسي للتطرف والإرهاب) صادرة عن سلسلة مراصد التي تصدرها مكتبة الإسكندرية، وأظنها من أوائل الدراسات التي تناولت الجانب النفسي للمتطرف، وخلص فيها إلى وجود تفسيرات تقول إن الاستجابات المتطرفة تزيد كلما شعر الفرد بالهامشية ، ويزيد التصلب كلما شعر الفرد بالتهديد، وأن الافتقاد إلى الهوية لدى المتطرفين عامة هو محصلة لعملية التدمير الذاتي والكراهية الذاتية التي تقودهم نحو الشعور بالانتقام تجاه الحياة نفسها، وكذلك نحو القتل لإخوتهم من البشر على نحو قهري.

هكذا يمكن النظر إلى التطرف ليس بوضعه أيديولوجيا أو استراتيجية، بل على أنه مرض باثولوجي يتغذى على التحطيم للحياة، وأن التطرف هو نوع من التنفيس الانفعالي للمشاعر العنيفة المتراكمة التي نتجت عن خبرات مستمرة متواصلة من الكبت، والشعور بعدم الأمن، والإذلال والمهانة، والاستياء والخسارة والغضب.

وتسهم نظرية الصورة ( Image Theory)  الذهنية في جذب فئة نحو التطرف، ونظرية الصورة معناها أن يحتفظ الفرد بداخله بالعديد من الصور المختلفة الخاصة بجماعته الداخلية (تنظيمه الأيدلوجي)، وكذلك جماعته الخارجية (المجتمع أو الدولة) التي يشعر تجاهها بالعداء، وأن جماعةً ما غير جماعته تمتلك القوة والثروة والثقافة على نحو استثنائي وظالم، وحدث غياب للعدالة والمساواة، ولن يتم تغيير هذا الواقع إلا بالعنف.

ويرتبط بنظرية الصورة نظرية العزو ( Attribution Theory) التي تُرجع أسباب الفشل أو الرسوب أو التأخر أو صعوبات الحياة إلى أسباب خارجية لدى المتطرف، بمعنى أنه رسب وفشل بسبب (الحظ – القدر – النصيب- عدم كفاءته-) أم بسبب (المحسوبية – المجاملة – الوساطة- العلاقات- المعارف)، وحسب الاعتقاد تتكون مشاعره واتجاهاته وسلوكياته، فإذا كان المجتمع يعاني من (المحسوبية – المجاملة – الوساطة-)، فإن ذلك يخلق سلوكيات واتجاهات محفزة للتطرف والعنف.

فالتطرف عبارة عن شحنات انفعالية، وهو ما أكدته دراسة لمجلة قضايا التطرف عنوانها: (أبعاد التهيئة النفسية المعززة لممارسة السلوك الإرهابي) من أن السلوك المتطرف يعتبر عملية تفريغ سلوكي لتلك الشحنات بشكل خاطىء، ومن ثَم فقد يكون السلوك الإرهابي تنفسيا عن مشاعر مكبوتة، يرى المتطرف أنها خاطئة، في الوقت الذي يفشل فيه من إشباع حاجة الانتماء، فيتجه نحو سلوكيات سلبية

والخلاصة أن الجانب النفسي ومراعاته ليس أمر ترفيهيا في سياق مكافحة التطرف، وإنما هو نوع من النشاط العلمي والمهني، يهدف إلى تحرير الإنسان من التوترات والصراعات ومشاعر الخوف والقلق والضيق والظلم، حتى لا يكون صاحب نفسية محتقنة يتم توظيفها لصالح جماعات التطرف.