عمار علي حسن يكتب: مائة عام من المعارك الفكرية في مصر

ذات مصر

ما أحوجنا اليوم إلى معارك فكرية، تحرك المياه الراكدة في ثقافتنا، وتجعلنا ننأي بأنفسنا عن النزال الرخيص الذي يعلو صوته في زماننا، على صفحات الجرائد وعلى وسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني بشكل أكثر تداولا وتناسلا كالحشرات الضارة، وهو يدور حول الشخص لا القضية، ويعمد إلى التشويه لا التفكير، وإزكاء الخصومة السياسية لا البحث عن حل عقلاني للخروج من المأزق الراهن لبلادنا.

لهذا استقبلت بشغف كتاب الكاتب الصحفي والباحث الأستاذ محمود سلطان "الدين والتراث والهوية.. توثيق مائة عام من المعارك الفكرية في مصر"، والذي تناول فيه معركة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، و" في الشعر الجاهلي لطه حسين" و"الفن القصصي في القرآن" لمحمد أحمد خلف الله، وكتابات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور حول الدين والهوية، والتي حملتها الأعمال الأدبية من روايات ومسرحيات وشعر وقصص، وكتاب "أصوات المد في التجويد القرآني" لتغريد عنبر، وصولا إلى كتاب "مفهوم النص" لنصر حامد أبو زيد، وانتهاء بما دار حول رواية "وليمة لأعشاب البحر" للروائي السوري حيدر حيدر من أزمة هي سياسية بالأساس.

لم يفارق سلطان في كتابه، الصادر عن دار شمس للنشر والإعلام، المربع الأساسي لمن يرون أنهم مدافعون عن الهوية الإسلامية، من النظر إلى هذه المعارك من زاوية الشك في نوايا المختلفين مع الرؤى والتصورات التقليدية، أو اعتبارهم بالضرورة دعاة للانسلاخ من الجذور أو التراث أو متساوقين أو أبواق أو رؤوس حربة لمشاريع غربية ترمي إلى النيل من الإسلام، وهي مسألة يتبناها الباحث منذ السطور الأولى لكتابه حين يقتطف من كتاب "أباطيل وأسمار" لمحمود محمد شاكر وصفه لميدان الثقافة والأدب والفكر بأنه أخطر الميادين حيث "الحرب الخسيسة الدائرة على أرضنا من مشرق الأرض إلى مغاربها"، ثم حديثه عن "دعاة التغريب والعلمنة"، وتقسيمهم إلى عارفين وجهلة.

الحقيقة أن اعتزاز علي عبد الرازق وطه حسين ومحمد أحمد خلف الله ونصر حامد أبوزيد بما تركه المسلمون والعرب الأقدمون من فكر وعلم وأدب مسألة راسخة، عليها مئات البراهين، التي يمكن استخلاصها من كتبهم، سواء منها ما أثارت معارك، أو الأخرى التي يتجاهلها البعض عن عمد، فهم في النهاية أبناء هذه الثقافة، هضموها، وتعاملوا معها باحترام، وأرادوا لها تعززا وتقدما، وكل مشكلتهم أنهم أرادوا توظيف مناهج بحث وتفكير جديدة في التعامل مع النصوص والمعارف القديمة، وأن يرفعوا القداسة عن منتج الرجال، ويسعوا إلى الإجابة عن أسئلة عصرنا وفق معطيات زماننا، وليس عبر الإحالة إلى إجابات قديمة كانت تلبية لتساؤلات واستفهامات زمانها المختلف.

 ولو راجعنا التراث الإسلامي ـ العربي جيدا، سنرى أن الاقدمين أنفسهم لم تكن لديهم مشكلة في إطلاق التفكير على أوسع مدى في المسائل الحيوية الحياتية والاعتقادية، والمشكلة في المعارك المشار إليها أنها كانت سياسية، سواء فعلها الملك ضد علي عبد الرازق أو طه حسين، وأخذ معه الأزهر وبعض الساسة والكتاب الموالين له، أو فعلها التيار السياسي الذي يتخذ من الإسلام أيديولوجية له، وهو يستعرض قواه، ويحاول أن يثبت للجمهور العام أن النخبة المختلفة معه عميلة للغرب، كارهة للإسلام، وأن الدولة لا تحمي الدين، وأنهم هم وحدهم الذي يصدون بصدورهم وعقولهم وقلوبهم عن الإسلام، وهي لعبة سرعان ما أكد الزمن بأحداثه مدى خطأها وخطلها، وكيف تم توظيف الإسلام في منافعها المادية، دون مراعاة لجلال الدين وروحانيته.

إن المشكلة أن دعاة تسييس الإسلام، وهي مسألة تنزع الكثير من روحانية الدين وأخلاقيته وخيريته، يصارعون في سبيل التخلية بينهم وبين رؤوس الناس، للسيطرة عليها، وكلما وجدوا أن هناك من يساءلهم ويحاورهم ويكشف أهدافهم، أو يطرح رؤى مختلفة أو ينافسهم في الساحة الاجتماعية والسياسية، سارعوا إلى رميه بالفسوق والمروق أو العمل على هدم الإسلام أو العمالة لغرب كاره له.

على العموم، رغم اختلافي مع بعض ما ورد في الكتاب فإنني أقدر الجهد الذي بذله سلطان في جمع الوثائق الخاصة بهذه المعارك، وترتيبها على نحو يجليها أمام الأفهام، خصوصا لجيل جديد لم يسمع عنها، كما أثمن له نظرته إلى أهمية ما جمعه في مساعدتنا على فهم أي معارك فكرية تدور رحاها مستقبلا.

وانطلاقا مما ورد في هذا الكتاب وغيره من معارك أقول إن من يمعن النظر في المعارك الفكرية التي شهدتها مصر على مدار القرن العشرين يخرج بنتيجة عريضة، تلخص المشهد العام  للنزال الفكري الذي شحذ الهمم وأجلى العقول وألهب الحناجر وأوغر الصدور، وهي أن التحديات التي طرحها أصحاب الأفكار "غير المألوفة" كانت دوما أكبر من الاستجابات التي جاد بها من تصدوا لتلك الأفكار ومنتجيها، ليس لأن أتباع الفريق الأول أقوى حجة وأنصع برهانا وأثبت مراسا وأسلس عرضا، بل لأن أغلب أنصار الفريق الثاني لم يحسنوا اختيار أداة النزال، مما قاد في النهاية إلى ترك هذه المعارك من دون حسم، وجعل توابعها تتجدد من آن لآخر، حتى مع حلول القرن الحادي والعشرين، وجعل كثيرين يشعرون أننا نحرث البحر أو نتحرك في المكان نفسه.

وتحت هذه النتيجة الكلية هناك استنتاجات فرعية، لا تخطئها عين بصيرة، ولا يهملها عقل فهيم، يمكن سردها على النحو التالي:

1 ـ كل المحاولات التي رمت إلى مواجهة الفكر بغير الفكر انتهت إلى عكس ما قصد أصحابها. فالكتب التي حوربت إما باتهام أصحابها بالكفر والمروق أو الخيانة والعمالة، وكانت الدوافع السياسية أكبر من العناصر الفكرية في التصدي لها، باتت أكثر شهرة وأوسع رواجا وبدا أصحابها "أبطالا" حتى في نظر بعض العوام، وحصدوا من المكانة ما لم يكن بوسعهم أن يبلغوا لو ظهر من يفند أفكارهم ـ  وكثير منها متهافت الصنعة ضعيف البنيان ـ عن طريق الرأي العلمي، الذي يستخدم أدوات البحث الحديثة، وينطلق من اقتناع تام بأن الطريق أمام البحث المنهجي يجب أن يكون عريضا، خاليا من أي عثرات. 

2 ـ إن الحكم على كثير من الأفكار التي دارت حولها تلك المعارك، لم يخل أحيانا، من  التربص الذي صنعته الضغائن الشخصية، والسعي إلى تصفية الحسابات، والانتصار للمصالح الضيقة، حتى لو كان هذا على حساب الحق والحقيقة.

3 ـ إن التعامل مع نوايا من أثاروا تلك المعارك الفكرية على أنها "خبيثة" على الدوام، مسألة تفتقد إلى الدقة، وتحتاج إلى مراجعة تامة، وتتطلب تفاديها مستقبلا. فبعض هؤلاء وقع ضحية لنقص المعلومات وتشويهها أو التأويلات الخاطئة للنصوص، أو التسرع في إصدار الأحكام. وبعضهم أراد أن يدافع عن الإسلام فراح يجتهد، وكان يجب التعامل مع ما أنتجه على أنه "اجتهاد خاطئ" وليس مؤامرة لتشويه الإسلام أو النيل من الهوية المصرية. وبعضهم كان يرمي إلى منع آخرين من استغلال الإسلام في تحصيل مكانة سياسية أو مكاسب مادية، وبعضهم أراد أن يلقي حجرا في بحيرة الفقه الراكدة ليمنعها من التعفن، بفعل الفجوة الزمنية الواسعة بين تخرج الأحكام وحركة الواقع المعيش. وهناك من كان به علة من نقص فأراد أن يلفت الانتباه إليه فتجرأ على العقيدة، وصدم الناس في دينهم، واتبع مبدأ "خالف تعرف"، طارحا أفكارا غريبة لا دليل عليها، وليس بوسعها أن تصمد أمام أي حجة.

4 ـ كثير من أصحاب هذه الآراء حادوا عنها، بعضهم انقلب عليها مائة وثمانين درجة، مثل خالد محمد خالد، الذي ألف كتابا بعنوان "دين ودولة" تراجع فيه تماما عما جاء في كتابه "من هنا نبدأ" من اقتناع بفصل الدين عن الدولة، وبعضهم راح يعدل جزئيا في أفكاره مثل طه حسين، الذي أعاد طبع "في الشعر الجاهلي" بعد أن حذف منه ما أغضب الناس، لكنه لم يفعل الشيء نفسه حيال كتابه الآخر "مستقبل الثقافة في مصر"، الذي كانت نقطة الشد والجذب فيه تدور حول "الهوية" وليست "العقيدة". أما منصور فهمي فصدمه ما قوبل به من "استهجان اجتماعي" فراح يعيد قراءة المراجع التي اعتمد عليها في أطروحته للدكتوارة عن "المرأة في الإسلام" فاكتشف أنه لم يتأن في الإحاطة بكل ما جاء به النص الإسلامي من قرآن وسنة، وما أنتجه الفقهاء في هذا الشأن، فلما أحاط علما بكل ما يتعلق بموضوع بحثه، غير أفكاره، وتحول إلى الدفاع عن الإسلام، لكن هذا لم يمنعه أن يظل حتى آخر أيام عمره غاضبا من عدم توافر حرية الفكر وحق الاجتهاد. وهناك من أصر على موقفه حتى آخر أيام حياته، مثل الشيخ علي عبد الرازق، الذي بدا واثقا مما انتهى إليه في كتابه الصغير الأثير "الإسلام وأصول الحكم".

ومعنى هذا أن الجدل الفكري، ومقارعة الحجة بالحجة، وتوافر شروط النقد الذاتي، كفيل بتعديل ما اعوج من فكر، وتقويم ما شذ من رأي. أما الإرهاب الفكري، ورمي الناس بالفسوق والخيانة، قد يؤدي إلى عناد حتى ولو في الباطل، بل يساعد ضعاف النفوس على تحقيق ما يسعون إليه من شهرة أو مال.

5 ـ من الضروري أن يثق المتدينون في عقيدتهم، ويؤمنون بأنها أقوى دوما من أن ينال منها رأي، أو يهدمها فكر. ولقد برهنت مسيرة الحياة أن الإسلام لم تضره السهام التي رمي بها، بل زادته منعة وقوة، لأنه ينطوي على بساطة في العقيدة تتأسس على الإيمان بوحدانية الله، وكمال صفاته الحسنى، والعلاقة المباشرة بين الإنسان وربه، وعدم إغفال النية، مع ترك الحكم عليها لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ومسؤولية الإنسان عن أفعاله، إذ "لا تزر وازرة وزر أخرى"، علاوة على مواكبة قواعد وأحكام الإسلام للفطرة الإنسانية.

إن القابضين على دينهم، المؤمنين بربهم، عليهم أن يتساموا في مواجهة أي رأي، يرون فيه شبهة تجديف بالدين، ويتصرفون من منطلق أن ما هم عليه أقوى من أن تهزه سطور عارية في رواية أو قصيدة، أو أفكار خارجة بين دفتي كتاب، أو أي عمل ثقافي آخر. وعليهم فقط أن يبحثوا في الدين عما يدحض ما يطرحه مخالفوهم في الرؤية والتصور الإيماني، وأن يطلبوا من الله لهم الهداية، من دون أن يتحول المؤمنون إلى قائمين مقام الله سبحانه وتعالى في الحكم على نوايا عباده، ومحاسبتهم عما يدور في طويتهم.

6 ـ إن إحالة الخلافات الفكرية والفقهية إلى ساحات القضاء هو العجز بعينه. ففي أغلب الأوقات لم يكن القضاء مؤهلا للنظر في مثل هذه القضايا، فجاءت الأحكام قاصرة مبتسرةـ تنطوي على جهل بمعنى ومبنى الأفكار محل الخلاف. وفي أوقات أخرى لم يكن القضاء بعيدا عن الضغوط السياسية والاجتماعية في فضه لهذا النوع من المنازعات، فجاءت أحكامه جائرة. والأفضل أن يتم تكوين لجان محايدة، يتم اختيار أعضاؤها حسب كل قضية، تدرس الأفكار التي تثير جدلا، وتدلي برأي شامل فيها، ينهي التنازع، ويريح النفوس، ويجلي العقول التي تستغلق أحيانا أمام الفهم، وتنقاد لطيش أعمى.

 7 ـ إن بعض المعارك الفكرية قام نظرا لجمود الفقه الإسلامي، والوقوف عند ما أنتجه الرعيل الأول من العلماء والاكتفاء به، من جهة، والخلط بين "الإلهي" و"البشري" من جهة ثانية. وقد آن الأوان لفقه جديد، ولتفريق بين الإلهي والبشري في النصوص، فلا قدسية إلا للقرآن الكريم والأحاديث القدسية وما ثبت صحته من الأحاديث النبوية بعد قياسها على المبادئ والأحكام التي جاءت في النص الأول والمؤسس وهو القرآن، وعلى المقاصد العامة للشرع الإسلامي. أما الاجتهادات التي أنتجتها حركة الفقه منذ صدر الإسلام وحتى اللحظة الراهنة، فهي عمل بشري، بعضه لا يصلح مطلقا لزماننا، ولا يجب أن يحاط بهالة مقدسة، ولا يتمتع منتجوه بعصمة، ولا يكتسب أهميته إلا من زاوية أنه جزء من تاريخ الفقه، وفي بعضه ما يرشد إلى فهم قضايا دينية معينة، من دون أن ينسحب هذا على جميع الفقه وكل القضايا. 

8 ـ من الخطر أن تتم تعبئة العوام خلال المعارك الفكرية، أو استغلالهم في ترجيح رأي على آخر، أو إرهاب صاحب فكر. فهذه القضايا تكون من التعقيد بما لا يمكن لعامة الناس أن يحيطوا بها كاملة، ومن ثم فإن إشراكهم في المعركة، يزيد الأمور حرجا، ويسوق أهل الرأي في اتجاه ترضية الناس وكسبهم، وليس في طريق الانتصار للحق والحقيقة. ولأن رأي العوام يميل دوما إلى المحافظة، وينزع إلى التمسك بما هو سائد، فإن فرص إحداث تراكم معرفي أو تقدم فكري تتضاءل. في الوقت نفسه فليس المطلوب من أصحاب الرأي، أيا كانت مواقفهم وتصوراتهم، أن يصدموا الناس فيما يعتقدون، ففي هذا اعتداء على حريتهم، وإضرار بسلامتهم النفسية. 

9 ـ يجب ألا ندفن رؤوسنا في الرمال، ونرفض، لأسباب سياسية مكشوفة، أي دعوة إلى تجديد الخطاب الديني، بل أي محاولة جادة لإصلاح الفقه والفكر والتصور الإسلامي كله، وهي مسألة في صالح الدين لو كانوا يعلمون.