علي الصاوي يكتب: أسطورة وادي الطفشان

ذات مصر

في عالم الميثولوجيا القديم، كثير من القصص التى تُعبّر عن نماذج أسطورية فاشلة تهوى حب التملّك وبسط النفوذ على الآخر، رغم ضعفها ونقصان خَلقها، كذلك الذي عجز أن يكون كما يَحلم في عالمه القريب، فخلق لنفسه عالمًا موازيًا في مكان بعيد يُحقق فيه حلمه، وجمع حوله الضعفاء ومن ألجأهم العوز، يُمارس عليهم سادية أماله وماسوشية أوهامه، وكلما خسر معركة في مضارب السياسة على يد خصومه من صعاليك البادية، عاد إلى خَدمه يمارس عليهم حماقته، ليشعر بلذة الانتصار النفسي وسطوة الملك. 

تقول الأسطورة إن جماعة من الصيادين ضاق عليهم الرزق في بلادهم فخرجوا يبتغونه في أصقاع الأرض وأعماق البحار فشطّ بهم النوى عند واد بعيد على شريط ساحلي اسمه وادي الطفشان يسيطر عليه رجل اسمه حزمبليوس وزوجته التي تُدعى تَفهاء، وجماعة من بسطاء القوم الذين خضعوا لهما، فقد نصّب حزمبليوس نفسه ملكا عليهم، مستغلًا ظروفهم الصعبة وما يمنّ عليهم من فتات.

كان الجُبن العقلي سِمة من سمات أتباعه في الوادي للعيش بأمان وضمان حريتهم، يُرهبهم حزمبليوس بأدوات بطشه وانتشار عسسه، فرضوا بالقليل من الفتات نظير سكوتهم والبقاء على قيد العيش، هم يعرفون أنه وحده مَن يملك مفاتيح خزائن النعم في سراديب الوادي الخفيّة عن الأنظار.

طلب الصيادون مساعدة حزمبليوس فرحّب بهم وأدخلهم الوادي وأقطع لهم قطعة أرض لبناء أكواخ خشبية من بقايا الشجر والحجر للمبيت، فاستدعى حزمبليوس من ذاكرته حُلمه القديم وهو مشاركة آلهة قريته التاريخية الحكم بأى ثمن، وتذّكر خروجه من القرية مطرودًا مكسورًا، بعد أن غضبت عليه الآلهة ونفته بعيدا عن القرية، ولعنته لعنة أبدية. 

عاش حزمبليوس في حيرة فاقدا الأمل في أن يُصبح أحد آلهة القرية لتهميشه وإبعاده، إلى أن سرت فيه الرغبة مجددًا لتحقيق حُلمه القديم، بدأ يُخطط كيف يستعبد تلك المجموعة الغريبة من الصيادين لينضموا إلى غيرهم من مسلوبي الإرادة وعبيد المال فيزوجهم من نساء الوادي فينجبون ويتكاثرون ليدخرهم في حربه ضد آلهة القرية. 

لم تتوان زوجته تَفهاء في دعمه، فحُلمها هى الأخرى أن تحصل على لقب زوجة إله، فكّر حزمبليوس كثيرًا ماذا يفعل حيال الوصول إلى هدفه؟ فلم يجد طريقة يقنعهم بها ليعبدوه ويؤمنوا به، فقالت له زوجته تَفهاء وكانت بارعة في المكر والدهاء: عليك بإحراق قاربهم في الليل فهو وسيلتهم الوحيدة في العودة فإذا جاء الصباح وجدوه مُتفحما ولن يستطيعوا العودة إلى بلادهم، بهذه الطريقة تَملك رقابهم وتفرض عليهم شروطك ليظلوا مُقيمين مُكرهين في الوادي كعبيد، واطلب من حلفائك داخل القرية زيادة الدعم لإغراء العبيد الجدد وإغوائهم بالبقاء معنا طوعًا، فيستبسلون في الدفاع عنك ويفعلون ما يؤمرون. 

استحسن حزمبليوس الفكرة وبدأ في تنفيذها، كان يأمر أتباعه بتعظيمه والركوع له أمام الصيادين لإعلاء شأنه مقابل زيادة في حصة الطعام والإدناء منه، وبعد أشهر من الإغراءات والكرم الزائد وافق الصيادون الدخول في طاعته مقابل أن يتركهم يعيشون في أمن وسلام، مرّت الأيام وهم يرون حزمبليوس كل صباح يُمارس طقوسا روحانية وأتباعه من حوله، وكلما سألوه قال لهم: لقد كنت أحد آلهة قريتي وكان من صفاتها كذا وكذا لكنني خرجت إلى هذا الوادي بسبب نزاع حدث بيني وبين آلهة أخرى تريد أن تُسيّطر على البلاد والعباد، فخرجت أعد لهم العدة وأضاعف من قوتي لأعود وأنتقم.

في البدء شك الصيادون في أمره إلى أن صدقه بعضهم من شدة اليأس في الرجوع وقلة الحيلة، والبعض الآخر رابهم حديثه وأفعاله ولم يصدقوه، وكلما زاد إيمان المجموعة التي آمنت به وصدقته أغدق عليها وزاد من حصتهم في الطعام، في مقابل التضييق على من كذّبوه وكفروا به، فعقابهم بأن ضيّق عليهم وقلل من حصص طعامهم وراقبهم عبر جواسيس من المجموعة التى آمنت به، لكن ذلك لم يُثن من عزيمتهم وقرروا أن يتخلصوا من ربقة استبداد هذا الكذاب الأشر. 

ظل الوضع هكذا عدة سنوات حتى صدّق حزمبليوس وزوجته تَفهاء أنهم حقا آلهة وقد تجلى ذلك في سلطويتهم وتَجبرهم على من آمنوا بهم اتقاء الجوع والخوف من الموت في واد معزول عن العالم، كان يأمرهم بالطاعة العمياء والولاء المطلق.

بدأت المجموعة المتمردة من الصيادين تخطط في الليل كل يوم كيف تصنع قاربا جديدا لمغادرة الوادي والعودة إلى بلادهم آمنين مطمئنين، وترك أصدقائهم ممن استمرؤوا العبودية وغاصوا فيها بأقدامهم، تدبرت المجموعة الرافضة لعبادة حزمبليوس أمرها وهربت بقارب صغير على حين غفلة من عسسه، لكنهم ضلوا طريق العودة بعد سنوات من المكوث في الوادي، فاجتهدوا وكافحوا حتى دفع بهم الموج إلى ساحل قرية قديمة تُشبه ملامح القرية التي كان يتحدث عنها حزمبليوس.

وصل الصيادون إلى القرية وقد أنهكهم التعب وأخبروا الآلهة بما فعله معهم حزمبليوس ومع أصدقائهم وطلبوا منهم إنقاذهم، لكن عليهم أن يقضوا أولا على من يدعمون حزمبليوس سرا داخل القرية، اجتمعت الآلهة وقررت محاربته قبل أن يكثر أتباعه ويغزوهم.

خرجوا جميعا باتجاه الوادي وبينما هم على مقربة من الساحل سمعوا من بعيد أصوات استغاثة ونفير بين الناس، فنزل أحدهم يستكشف ما الذي يحدث، فرأى انتفاضة كبرى انفجرت في وجه حزمبليوس أسقطت عنه ألوهيته المزعومة بعد أن اكتشفوا كذبه وطفح كيل الظلم وفاض في أرجاء الوادي، فوقفوا جميعا يشاهدون من بعيد وقد حاصره الناس ونزلوا على رأسه ضربا بالنعال هو وزوجته، فقد جفّ الوادي من النعم وانقطع الدعم.

كان حزمبليوس يصرخ ويقول: أنا إلهكم الأعلى أنا إلهكم الأعلى أنا من أطعمكم وأمّنكم لماذا تضربوننا؟ أنسيتم إكرامي لكم وتفضلي عليكم، لم يرتدع وظل يكابر ويتعاظم حتى مات هو وزوجته من شدة الضرب، وراح الخبر بين الناس، وتحول حزمبليوس إلى شخصية أسطورية، وباتت نهايته حديثًا للغابرين، فقال كبير آلهة القرية: استعدوا للعودة فقد كفونا القوم إيّاه. 

مات حزمبليوس غير مأسوف عليه، ولم تأت قصته من أرشيف الأساطير القديمة، بل هى أمثولة رمزية نسجها الخيال ليعتبر بعض المعتوهين ممن يدعون البطولة والسيطرة أن خاتمة ظلمهم وتألههم على الناس قد تكون الضرب بالنعال يومًا ما على يد من استعبدوهم وسرقوهم، وما رضاهم وصمتهم إلا نوع من الصبر المتربص لحين تأتيهم الفرصة.