علي الصاوي يكتب: مصر وتركيا.. تقارب أوشك على الاكتمال

ذات مصر

عندما تُوشك الأزمات بين الدول أن تنفرج ويظهر أفق سياسي جديد يتسع لحل الخلافات السياسية، تجد بعض المأزومين في ورطة كبيرة بين مُصدّق ومُكذّب، فمنهم من يؤول الموقف على محمل التهوين تارة والإنكار تارة أخرى، ومنهم من يُفسّره بمنطق الدروشة السياسية، وآخر يراه عنوانًا لمرحلة جديدة غامضة، فيظل صامتا يترقّب من أين ستأتيه الضربة.

وعلى مدار الأشهر الأخيرة اتسم التقارب المتأني والحَذر بين مصر وتركيا بعنصر المفاجأة، تقارب مبني على براجماتية بحتة، وتلك هي لغة السياسة السائدة والمفهومة بين الدول وإن كانت خرساء لا تتكلم، بعيدًا عن لغة الاستمالات والعواطف المنفصلة عن الواقع، التي تُخدر الحواس وتُغيّب العقول لعدم فهم أو إدراك السياق الحالي وإلى أين تتجه سفينة التغيير.

كما أن معرفة حجم اللاعبين في أي معترك سياسي يعد أحد أهم أدوات التحليل لمعرفة ما ستؤول إليه الأحداث، وأي خطأ في تقدير حجم أي لاعب سياسي في القضايا العالقة في الإقليم يؤدى إلى مخرجات خاطئة، تُعقّد من فَهم ما يجري وتُصعّب استشراف مستقبل العلاقات بين مختلف الفرقاء من الدول المتحالفة أو المتصارعة حول كعكة المصالح.

والعلاقات المصرية التركية منذ نشأتها عام 1925 على مستوى القائم بالأعمال ثم عام 1948 على مستوى تبادل السفراء وهي تتسم بدفئ دبلوماسي متوازن لا يشتد إلا ليهدأ ولا يهدأ إلا ليشتد، لكن جذورها متينة لمواقف تركيا التاريخية والمشرفة مع مصر ففي حرب أكتوبر 73 رفضت تركيا فتح المجال الجوي أمام الطائرات الأمريكية وقاعدة إنجرليك لدعم إسرائيل، في حين فتحت المجال الجوي للطائرات الروسية لدعم مصر لمدة عشرة أيام إبان حكومة نعيم تالو، وفي عام 2005 وقّعت مصر مبارك اتفاقية للتجارة الحرة مع تركيا، لترفع سقف التعاون بين البلدين إلى مستوى شراكة اقتصادية، وفي 2008 وقّع البلدين مذكرة تفاهم لتحسين العلاقات العسكرية بينهما.

احتضان تركيا لجماعة الإخوان المسلمين أثّر على العلاقات المصرية التركية وقُطعت دبلوماسيًا عبر سحب السفراء، وشن الإعلام المصري حملات إعلامية على تركيا وسياستها في المنطقة، وعلى الجانب الآخر أفسحت تركيا المجال لقنوات المعارضة تهاجم النظام بلا قيود سياسية أو مراقبة.

لكن كما هو معلوم في العلاقات الدولية أنه لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة بل مصالح دائمة، وهذا ما ظهر مؤخرًا في سياسة التهدئة بين البلدين وعقد لقاءات استكشافية أفضت إلى زيارات على مستوى الخارجية ثم وساطة قطرية جمعت بين السيسي وأردوغان في مونديال قطر، ثم تهنئة السيسي لأردوغان بالنجاح في الانتخابات الرئاسية والحديث بينهما حول تسريع رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي في أقرب وقت، وقد تُفضي تلك التحركات إلى عقد لقاء رسمي بين السيسي وأردوغان قريبًا والوصول إلى تفاهمات حول ملفات كثيرة عالقة مع الحفاظ على مصالح الطرفين، وهذا ما أشار إليه القائم بالأعمال التركية في القاهرة في حوار مع قناة روسيا اليوم أن الرئيس أردوغان وجّه دعوة للرئيس السيسي لزيارة تركيا.

أدركت كل من مصر وتركيا أن سياسة التصعيد لن تثمر إلا مزيدًا من الخسائر وإفساح المجال لدول أخرى لتحقيق مصالحها من خلال العزف على وتر الخلاف بينهما ليبقى مستمرًا بلا أفق سياسي يضع حدا لتوتر العلاقة، خاصة وأن المشترك بين تركيا ومصر أكبر من أي خلافات وليدة تقلبات ظرفية طارئة.

تتجنّب الدول الكبرى الصدام في حال توازنت القوى بينها، فتلجأ إلى إيجاد صيغ تعاون تبنى عليها تفاهمات تراعى مصالحها ما أمكن ذلك، من دون فرض أى رؤى أو وضع شروط تُرجّح كفة مصالح دولة على حساب دولة أخرى في ملفات بعينها، وهذا ما تسعى إليه تركيا الآن مع مصر على نار هادئة أوشكت على النضوج والاكتمال.

الأصل في العلاقات الدولية خاصة بين الدول المشاطئة هو التعاون وتقاسم الثروات وليس الصدام، لذلك كان احترام مصر للجرف القاري التركي في شرق المتوسط أثناء ذروة الخلاف رسالة إيجابية من مصر أن الأفق السياسي ما زال مفتوحًا للتقارب، فمصر تدرك رقم تركيا الصعب في المعادلة الإقليمية وأن سياستها لن تضر بمصالح مصر في شرق المتوسط، وكذلك تركيا تعرف حجم مصر وتأثيرها في هذا الملف الوجودي بالنسبة لها.

قبل القطيعة السياسية مع تركيا صرّحت مصر بأن جزيرة "كاستيلوريزو" المتنازع عليها بين تركيا واليونان في بحر إيجه ليس لها جرف قاري بحيث تبدأ اليونان منها تعيين حدودها البحرية، لكن الموقف تغيّر بسبب الخلافات السياسية بعد دعم تركيا للإخوان، وربما يتغيّر الموقف في الأيام المقبلة ويعود سيرته الأولى تجاه نزاع الجزر فكل شيء وارد في المستقبل، والمتغيرات هى الشيء الوحيد الثابت في السياسة، فمن لا يضخ دماء جديدة في علاقاته الدولية وركن إلى جهة دون أخرى تجلّط دمه وأضرّ بمصالحه وبِيع في أسواق السياسة بثمن بخس، ومن ثم مات وصار في ذمة التاريخ، لذلك كانت العلاقات تتأرجح بين مد وجزر، لحين تتهيأ السياقات الإقليمية لعودتها كاملة.

أما عن الإعلام المعارض في تركيا فأضحى خرافة سياسية، وما استمراره إلا نوع من أنواع القصور الذاتي والرهان عليه خاسر، فليس له ثقل سياسي في المعادلة بحيث يؤثر على اكتمال عودة العلاقات المصرية التركية، ففي شرع السياسة الضعيف مُهمّش ومأكول، فضلا عن أن يكون عائقًا أمام مصالح دول بحجم مصر وتركيا، وسوف يُطوى هذا الملف إلى الأبد بكل أدواته المستعارة وشخصياته الكومبارس. 
إن مصر وتركيا قوتين عُظميين ويتعاملان بندية سياسية مستمدة من تشابه جيوسياسي وإرث تاريخي وخبرات خاصة، تُمثّل تركيا الجسر بين آسيا وأوروبا، مثلما تُمثّل مصر جسرًا بين آسيا وأفريقيا، إضافة إلى التناظر القريب بين البلدين في حجم السكان، لذلك فإن استدارة الدولتين للخلف وإعادة العلاقات مرة أخرى يوازن كفّة النفوذ في المنطقة والعودة إلى المربع الأول تغليبًا للمصالح.

وإذا كانت تركيا بطموحاتها الجيوبولوتيكية الحالية تحمل رأسا أكثر من ضخم، فإن مصر بتاريخها الضارب بجذوره في التاريخ ودولتها العميقة، سيدة الحلول الوسطى وحجر الزاوية في المنطقة والوسط الذهبي مهما اشتدت أزماتها الداخلية، فجغرافيتها وحدها كافية ليخطب الجميع ودها ويسوس علاقته بها.