علي الصاوي يكتب: حظيرة البطاريق

ذات مصر

يقول المتنبي: "وأعظم ما تُكلفني الليالي.. سكوت عندما يجب الكلام"، معبرا بذلك عن ألم الصمت أمام ما لا يستحق السكوت عنه في أوقات المِحن، وأهمية الجهر في اللحظات الحرجة كطوق نجاة أخير من الغرق، مثل البوصلة بالنسبة لربّان السفينة تدله وترشده للمَرسى المراد الوقوف عنده، وكالإشارات في أبراج المراقبة الجوية ترشد الطيار إلى مكان الهبوط المناسب، وإلا انتهى بهما الأمر بالاصطدام والتحطم.

كانت الكلمة عبر كل العصور آفة من لا يريد الإصلاح، ويهوى الإفساد في البراح، كونها منشطا ذهنيا يُوقظ المخدوعين والمستدرجين في عالم التيه والشتات ويُحرّك عواطفهم من التلبد، فالكلمة لها سحر خاص يصيب الهدف من أول رمية لأنها تحمل رموزا عابرة للحدود وخارقة للحواجز، فالكلمة تثور على التقليد ولا يستبد بها الماضي التليد.

يلجأ كثير من الأدباء والشعراء إلى الترميز والتشفير والتورية في عرض أفكارهم حماية من الملاحقة والبطش، وما كان غرضهم من البداية إلا الإصلاح ما استطاعوا لكن الكلمة ثقيلة ولها أغلال كثيرة، تُقيّد حركة كل سياسي فاشل وتكشف عوراته، وتفضح عجزه وتقصيره، ولو أنه سمع واستجاب لكان خيرا له وأقوم، وما لجأ هؤلاء للتخفي وراء السطور فينجو وينجون معه، لكن كما أن للكلمة سحرا وبيانا، فإن البطش والغرور سمة المدعين والأفاقين في كل ميدان.

وفي القصة الرمزية قد يجد الكاتب ضالته فيُفصح عما في داخله من أفكار في صورة فكاهية، أو وعظية أو اعتراضية على لسان حكيم أو حيوان أو طائر، وفي يوم وأنا جالس أترقب وأرقب واقع اجتماعي أوغل في الفساد والإفساد بلا رقيب ولا حسيب، جاءتني خاطرة في شكل أمثولة رأيت من خلالها هذا الواقع البائس والمتردي وطبيعة القوانين التي تحركه، والقصة تقول:

حضر الجميع في مجلس حظيرة البطاريق يبحثون في الأمر حول ما إذا كانوا بحاجة إلى ضخ دماء جديدة في حظيرتهم المتجمدة منذ سنوات لقيادة تستطيع خلق فكرة مبتكرة، لتنفيذ مشروع قناة مياه دافئة لتحقيق التنمية في الحظيرة، ومنع تراكم الجليد حولها خوفا من طمس معالمها.

توجّس زعيمهم البطريق الأكبر من المقترح فهو يفرض نفسه عليهم منذ سنوات بدعوى أنه الأكبر سنا والأقدم خبرة وتاريخا، فأشار عليهم أن يصبروا حتى يأتي فصل الصيف لتكون تكلفة تدابير المشروع أقل، وساعتها نجري قرعة على من يتقدم لقيادة القطيع وتنفيذه، التزم الجميع بالكلام وحين جاء فصل الصيف تحجّج البطريق الأكبر بذوبان الثلج وشدة سيولته، وقال: إن الأمر بحاجة إلى بعض التجميد وصلابة الأرض فانتظروا حتى الشتاء القادم.

سمعت البطاريق كلام البطريق الأكبر، وظل الأمر على هذا النحو لسنوات، وحين امتعضت البطاريق من مماطلة البطريق الأكبر وحججه الواهية التي لا تنفد قرروا مواجهته بحزم، لكن الوقت فات، وسبق السيف العذل، فقد تراكم الثلج حول الحظيرة خلال سنوات المماطلة حتى صار جبلا يصعب هدمه.

وفي يوم هبّت عاصفة شديدة أربكت الحظيرة فحاولت البطاريق اتخاذ تدابير الحماية والنجاة بأنفسها والجري هنا وهناك، لكن البرق لم يُمهلها حتى ضرب جبل الجليد المتراكم حول الحظيرة، فانهار عليها ولم ينج منهم أحد، وطُمست الحظيرة في أعماق الجليد، لكن المفاجأة أن البطريق الأكبر كان قد هرب قبل حلول العاصفة بأيام نحو الشمال، حيث حظيرة حلفائه من البطاريق الذين شعروا باقتراب العاصفة فأخبروه أن يهرب قبل وقوع الكارثة، فهل عرفتم من هو البطريق الأكبر؟