هشام النجار يكتب: المنهج الإسلامي القويم في التعامل مع جريمة حرق المصحف العظيم

ذات مصر

كتبت هذا المقال خصيصًا لأنني قرأت خبرًا مفاده استعداد شاب مسلم لحرق نسخة من الإنجيل ردًا على حرق شخص عراقي الأصل لنسخة من المصحف الشريف تزامنًا مع أول أيام عيد الأضحى.

هناك أساس منهجي بالغ الأهمية في ديننا وهو ضرورة التعامل مع الواقع بمرجعية قيمية وأخلاقية ثابتة إبتداء مهما كان ينبغي التمسك بها فلا خيانة للأمانات ولا نكوص بالعهود ولا إخلال بالكرامة الإنسانية وآدمية البشر ولا اعتداء على الحقوق والممتلكات والأرواح ولا استغلال لضعف الآخر بالإمعان في إذلاله وامتهانه أو السخرية منه، ولا سب ولا سخرية من معتقد الآخر أو رمزه الديني، وهي الفلسفة القرآنية السامية التي أجملها ربنا في قوله "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله".

السؤال هنا.. ماذا لو سبوا هم الله وحرقوا كتابه المقدس وداسوه بأقدامهم واستهانوا بالإسلام وسخروا من رموزه العظام؟

المنهج الذي اتبعه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، في نفس الوقت الذي حافظ فيه على الثوابت والقيم العليا والمبادئ الأخلاقية العامة حتى لايرد الآخر الإساءة بإساءة وفق تعاليم القرآن.

مع ذلك ضبط صلى الله عليه وسلم ردود أفعاله ولم يرد التجاوز بتجاوز مضاد حفاظًا على نصاعة المنهج الإسلامي العظيم وعلى نقائه وسمعته، ومع ذلك تحلى الرسول بالمناورة اللطيفة التي تقيه الهزائم والسقوط والوقوع في فخاخ الماكرين.

لنضع في البداية هذه القاعدة نُصب أعيننا: مهما تدنى ساسة أو كتاب أو رسامون أو صحافيون أو ملحدون أو لادينيون أو متطرفون يمينيون عنصريون في الغرب أو أي مكان وأساءوا للإسلام العظيم ورموزه وكتابه المقدس، فالإسلام حرص على ألا يلوث تاريخه ومنهجه بتلك القاذورات حتى وان كانت من قبيل ردود الأفعال، -كما يدعى البعض-.

ولنعلم أبناءنا هذا السلوك القويم: إذا خان العدو العهد فلا يخون المسلمون انتقامًا وثأرًا وذلك للحفاظ على ثوابت المنهج الإسلامي، وإذا تدنوا إلى الممارسات البغيضة التي تحط من قدر الإنسان وتنتقص من كرامته وتنتهك حرمته فلا يكون الرد بالمثل، انتصارًا لثوابت الإسلام وإبقاءً على نصاعة منهجه ونقائه وإعلاءً لأخلاقياته وقيمه.

يعني ذلك أننا لا نرد على حرق أحد المدعين المتجرئين من هواة الشهرة المصحف الشريف واهانته بحرق الإنجيل وإهانته، لأننا بذلك نتساوى معه في الدناءة والاسفاف والحقارة وغرقنا معه في أوحال القذارة.

لو كان الغدر جائزًا في الإسلام ردًا على غدر وخسة البعض لجاز للرسول صلى الله عليه وسلم ردًا على غدر الكفار به ومحاولتهم اغتياله وطرده من بلده، وقد كانت الدعوة الإسلامية والدولة الوليدة في بدايتهما وفى أمس الحاجة للدعم المادي، ورغم ذلك حرص الرسول على رد أمانات الخصوم التي كانت مودعة لديه قبل الهجرة الاضطرارية، ولو أراد لاحتفظ بها تأمينًا لدعوته ودولته الوليدة، لكنه تجاوز هذه الاعتبارات والمصالح المتوهمة تقديمًا للمصلحة العليا الثابتة، وهى مصلحة المنهج حتى لا يلوث بما ينتقصه ويشينه أو يخصم من قدره ومكانته، فليست هناك أي ظروف أو تحديات قاهرة تبرر التخلي عن تعاليم المنهج وأخلاقياته وثوابته؛ لأن هذه التعاليم والأخلاقيات والثوابت في ذاتها هي ضامن بقائه وصموده، فإذا سقطت سقط وتهاوى.

الشواهد كثيرة والرسول صلى الله عليه وسلم حرص على الوفاء بالعهد ولو للأعداء الذين تجاوزوا في حقه وسعوا للإيقاع به.

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أنى خرجت أنا وأبى حسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا" -أي تريدون معاونته وتسعون للقتال في صفه-، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا.. نفى بعهدهم ونستعين الله عليهم".

إذن من أستاذنا الأول صلى الله عليه وسلم نتعلم أنه مهما كانت خطايا الآخرين وجرائمهم لا يتورط قائد كيان أو رب أسرة أو مدير مؤسسة في فعل أو رد فعل من شأنه الخصم من ثوابت المنهج  الإسلامي النقي أو إعطاء الفرصة للآخر في الانتقاص منه وتشويهه والإساءة إليه، إنما الواجب هو الحفاظ على الثوابت والأصول والأخلاقيات والمبادئ، مع الاجتهاد في الدفاع والنضال بما شرع الله وبما أراد وبالتوكل عليه سبحانه، كما قال الرسول الكريم "نفى بعهدهم ونستعين الله عليهم".

وقعت حوادث كثيرة كانت مبنية على مجرد الظن والأحكام المسبقة تسببت في كوارث وخلخلة علاقات اجتماعية بين المسلمين والآخر أشار القرآن إلى بعضها مثل قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" ومثل قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرًا" ومثل عتاب الله لمن انطلت عليهم شائعة الافك، ومن ثم يعلمهم كيفية تلقى الخبر والتعامل مع الأحداث بوعي وتبصر وإحاطة بالواقع وشخصياته وأحداثه وخططه ومؤامراته وتحدياته.

إذا تعامل المسلمون مع الآخر وفق تلك المناهج والقواعد التي حددها لهم القرآن، فلن يصادف الغربيون أو غيرهم مسلمًا قاسيًا ولا متعاليًا ولا متعجرفًا إنما ذلك المسلم الذي جعله إسلامه مسالمًا محترمًا مثقفًا واعيًا تنبع الرحمة من قلبه ويفيض عبر كل مواقفه وتعاملاته بالخير والبر والعطاء وينثر على كل من حوله السلام والمحبة، فيحبون الإسلام من خلال أخلاق من يحمله ويدعو إليه، وينجذبون لقيمه التي تجسدت في أخلاق دعاته ومعتنقيه، وتلك فقط هي إقامة الدين الحقيقية بالدعوة، لا بالسلطة ولا بالسرية ولا بالاغتيالات والدم والعنف ولا بالتجهم والتعامل اليومي المنفر والتحريض على الكراهية، كشأن ممارسات وسلوكيات الجماعات التكفيرية المتطرفة.