هشام النجار يكتب: طارق رمضان و30 يونيو والمُغفل المفيد

ذات مصر

لسنا ممن يتناولون حياة الناس الخاصة أو علاقات فلان من الشخصيات العامة النسائية، إنما نشتغل على الأفكار والتصورات وما يهم الشأن العام. 

في ذكرى ثورة الثلاثين من يونيو 2013م التي يعود إليها الفضل في عزل جماعة الإخوان المسلمين عن السلطة، نتذكر ما طرحه أحد أهم مفكريها المحدثين وهو الدكتور طارق رمضان حفيد الشيخ حسن البنا، في وقت أبرز الغالبية عضلات النقد للجماعة حتى أعضاؤها وقادتها، كأنهم يغتسلون من خطاياهم وصاروا جميعًا مفكرين بعد مسابقات التكفير والتحريض التي خاضوها. 

حالة رمضان خاصة ليس لكونه حفيد مؤسس الجماعة؛ بل لأنه نجل سعيد رمضان الشخصية الأكثر تأثيرًا في منعطفات الإخوان نحو السقوط، عندما غرس بذرة التنظيم الدولي وحولها لأداة وظيفية بيد الغرب، ولأنه يمتلك عقلا نقديا متنقلا بين مراكز التخطيط والتآمر الدولية، وقد كان من القلائل الذين اعترفوا منذ البداية بأن الثورات العربية على عفوية أسبابها فيها مؤشرات وقرائن على صناعة أمريكية وغربية. وفى إحدى محاضراته انتقد رمضان تركيز الإخوان على السلطة وعدم فهمهم الصورة الكاملة، والأهم أنه طرح هذا السؤال: ليس كافيًا أن تقول لي دولة مدنية ذات مرجعية دينية، أريد أن أعرف ماذا تعني لك؟ 

ذهب الإخوان لمشروع نهضة إخواني أمريكي، وليس لمشروع وطني مشغول بفكر وتجارب التيارات الوطنية المصرية جميعًا، والشيخ يوسف القرضاوي مرجعية الثورات الفكرية وصف الأطلسي بحلف الفضول، زاعمًا أنه لو بُعث الرسول من جديد لما تردد في التحالف مع الناتو. 

ويتطابق طرح فرنسيس فوكاياما كما في حوار له مع صحيفة إسرائيل اليوم 11 فبراير 2011م بأن الثورات منحت أمريكا مصداقية لتزعمها مشروع إعادة الديمقراطية إلى العالم العربي، بطرح نموذج يجمع بين الإسلام والديمقراطية، مع كلام الشيخ راشد الغنوشي الذي طرحه على هامش زيارته لأمريكا المواكبة للثورات بأن هدف الثورة التونسية تحقيق نموذج جديد يجمع بين الإسلام والديمقراطية.

والسؤال هنا: هل سعى الغرب حقًا لتحقيق هذه المواءمة بشكل يخدم الإسلام وصورته الحقيقية ونهضة بلاد العرب؟! أمريكا والأطلسي ليست جمعيات خيرية أو مراكز حقوقية ولن ترسل للحالمين بالديمقراطية والحريات ومشروع النهضة الإسلامي باقات زهور وبرقيات تهنئة، بل هي قوى وتكتلات لا تتحرك إلا لمصالحها فحسب، ولم يسأل قادة جماعة الإخوان أنفسهم لماذا يريدكم الأمريكان في السلطة وفق هذه المشاريع المُلغمَة التي تشبه علبة لحم خنزير مدون عليها حلال، لتريح من يتناولها من المسلمين ولتنجز الأهداف الغربية، أو أنهم يعرفون لكن رغبتهم في السلطة دفعتهم لاستمراء الخداع. 

الغرب خطط وسعى منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي لإقامة كيانات منفصلة بالمشرق العربي تخضع لنفوذه الحضاري والسياسي وقيمه الفكرية، لتفسد قابليتها لأن تكون عنصرًا إيجابيًا داخل الكيان الحضاري والثقافي العام لأمة عربية موحدة قادرة على النهوض بمشروع تحديث وتحضير شرقي مستقل. 

واعتمد الغرب لإرباك المشروع النهضوي العربي على الدفع بمؤثرات أغلبها قشور وبهرج، وقوامها الفعلي إستراتيجيات طويلة الأمد تضرب أية وحدة عربية تنطلق من أية وجهة فكرية سواء كانت ليبرالية أو يسارية أو سلفية، وعلى مدى عقود طويلة حرص الغرب بكافة الوسائل على تأمين مصالحه والمواد الخام وتفوقه الحضاري واستقراره ورفاهيته بإبقاء المنطقة العربية تحت سيطرته لا تجتمع على مشروع موحد مع تخديرها بالوعود والشعارات الزائفة ليظل العرب في حالة تسول دائم للحقوق ومنتجات الحضارة الحديثة. 

جيل النخبة العربية الذى سافر بداية من العشرينيات ليتعلم في الغرب وعاد يروج للقيم الغربية أدرك الخديعة مبكرًا، وتوصل إلى أن هذا الزيف لا يخدم سوى مصالح الغرب وأن النهضة الشرقية لا تتحقق سوى بكيان موحد ينطلق مشروعه الفكري والحضاري من الجذور الوطنية وأصول التراث الإسلامي والعربي والروح الشرقية مع اقتباس وسائل النهضة التقنية الحديثة من الغرب، بما مثل استفاقة أحبطت الغرب وأفزعت مفكريه وصناع قراره، فحاول الغربيون ضربها بتمويل ودعم مشاريع الجمود الديني والسلفي التي كان سعيد رمضان (والد طارق) لاحقًا أحد أهم ناشطيها وأدواتها. 

محمد حسين هيكل زعيم (الدستوريين الأحرار) الذى بدأ متحمسًا للتغريب الشامل ثم انتهى في منتصف الثلاثينيات بمشروع حضاري تكاملي يوفق بين الروح الشرقية ومؤثرات العروبة والإسلام الحضاري وعوامل النهضة الغربية، كما نلحظ ذلك في التحولات التي طرأت على مجلته (السياسة الأسبوعية) وعلى إنتاجه الفكري (حياة محمد) و(في منزل الوحي)، وكذلك طه حسين بدءًا من (مستقبل الثقافة في مصر) وانتهاء ب (على هامش السيرة)، ثم عبقريات العقاد وجهود أحمد أمين التي تلخصها باحترافية مقالته الخالدة بالعدد الأول من (الرسالة)، ويغذى توفيق الحكيم أعماله الأدبية المتأخرة بأساسيات هذا المشروع الفكري كما في مسرحيته عن الرسول وكما فعل في (يوميات نائب في الأرياف) وفيها زعزع قناعة ملاءمة التشريعات الفرنسية لمجتمع الصعيد وأرياف مصر، وهذه جميعها وغيرها مراجعات وطنية، تكشف الأهداف الحقيقية للغرب وتبحث عن الذات المصرية الوطنية، وترسم مسار التقدم وملامح مشروع النهضة العربي الحقيقي المخلوق من ذات الأمة، لا المُصَنع والمفروض من خارجها. 

تحرك الغرب مع النجاح المحدود الذي أشعل الأمل عندما نجح المصريون في تدشين تجربة سياسية تعددية ينقصها الاستقلال في الثلاثينيات والأربعينيات، وازداد ضراوة عندما ظفروا برئيس مصري بعد ألفي عام وبواكير صناعة وطنية وإصلاح زراعي ومشروع تعليم مجاني بعد ثورة يوليو 1952م بما يهدد بمشروع نهضة عربي حقيقي مستقل عن الغرب ويرتكن لمراجعات وأدبيات النخبة الفكرية العربية، لذلك لجأوا لضرب هذه المشاريع التوفيقية التكاملية بكيانات أحادية مؤدلجة بحس طائفي تزعم زوراً مواجهة العلمانية والتغريب. 

رواية (القاهرة الجديدة) للأديب العالمي نجيب محفوظ التي صدرت في طبعتها الأولى بعنوان (فضيحة في القاهرة)، إدانة قاسية لمصادرة حاضر مصر لحساب عصابة غريبة لا تنظر للمصري إلا كأداة رخيصة لتحقيق متعها ومصالحها، وهو واقع يستحق تلك القسوة في الإدانة، فشروط الغرب كي يجد العرب مكانًا ومعاشًا في مجتمعاتهم أن يبيعوا لهم أنفسهم ومبادئهم وقيمهم بيعًا كاملًا. 

أسئلة طارق رمضان التي وجهها لقادة جماعة الإخوان المسلمين قبل أكثر من عقد، والتي لم يتلقَ إجابة عليها حيث كان الارتباك والسقوط مُدويًا ولا أحد مشغول بالأفكار إنما ببهرج السلطة، وأنا أجيبه الأمس واليوم وغدًا: أيها المفكر.. لقد رغبت أمريكا في مجرد تابعين وأدوات لمشاريعها ليس أكثر أي بتعبير الماركسيين أرادت (مُغفل مُفيد)، وهناك من أحجم في الماضي وفضح الفضيحة، وهناك من تقدم قبيل ثورة 30 يونيو وزين للحشود الوهم.