علي الصاوي يكتب: تركيا وحُرّاس الهيكل

ذات مصر

عندما اشتد الخناق على تنظيم الإخوان في مصر وصدامه مع قيادة ثورة يوليو 1952، سُئل القيادي يوسف طلعت عن استراتيجية التنظيم في التعامل مع الضباط الأحرار وكيفية المواجهة فرد بقوله: "سنواجههم بنصر الله وبركة طاعة المرشد!" ثم وقع حادث محاولة اغتيال الرئيس عبد الناصر في المنشية وعلى إثرها اعتقل يوسف طلعت والمرشد آنذاك حسن الهضيبي، فكانت النتيجة أن حُكم على يوسف طلعت بالإعدام والهضيبي بالمؤبد، فكانت طاعة المرشد لعنة وليست بركة، وما كان يعتقده نصرا تحول إلى هزيمة. 

موقف تاريخي يعكس أدبيات وفلسفة التنظيم في تعامله مع الأزمات تستطيع من خلاله استشراف شكل ونهاية أي صراع سياسي يكونوا فيه طرف، ومعرفة نمط تفكير قيادات التنظيم وكيف يرون شكل الصراع، خبرات تاريخية متراكمة تُسهل على كثير من المتابعين فَهم ما يحدث الآن للجماعة من فشل سياسي وحصار في الداخل والخارج، وانحسار تنظيمي تآكلت نخبته وتسربت كتلته الشبابية، حيث التِيه السياسي ووقف الحياة بما جنت أيدي قيادتهم.

السياسة لعبة المهارة والممارسة الواعية وليست لعبة النوايا الحسنة، لعبة القواعد والجاهزية في التعامل مع المتغيرات، وليست لعبة نرد بحيث يرمي اللاعب الظهر ويتمتم بأدعية دينية راجيا الفوز، بل هي أشبه بلعبة الشطرنج تحتاج إلى قدر كبير من الذكاء والفهم والمناورة، فحتى أمهر اللاعبين لا يُحب أن يكون منافسه غبي، وجاهل بقواعد اللعبة كى لا يُعقدها ويفسد مُتعتها. 

فماذا تبقى للجماعة في تركيا؟ 

لم يعد لدى الجماعة ما تستمر من أجله سياسيا سوى الحفاظ على هيكلها البنيوي وحراسته من قبل كهنة المعبد بلا أي مضمون سياسي حقيقي، بعد أن أثبتت أفكارها المركزية فشلها، إضافة إلى التغيّر الكبير في السياسة التركية التي وجدت أن الرهان على جماعة متواضعة فكريا وسياسيا في تحقيق مصالحها الإقليمية رهان خاسر، مع حالة الوهن والتشرذم التي تعيشها الجماعة من الداخل وانقسامها على نفسها كالجزر التائهة في البحر. 

كشفت التجربة السياسية لجماعة الإخوان على مدار عشر سنوات في تركيا، أن الصراع الحقيقي لم يكن بين الجماعة والدولة المصرية، بل بين صفوف الجماعة نفسها وإن ظهر عكس ذلك، في صورة عكست دلالات سياسية لصانع القرار التركي تجلت مخرجاتها عام 2016 عندما بدأت الدولة التركية التواصل مع الجانب المصري مخابراتيا، لإدراكها أن الجماعة إثمها أكبر من نفعها وأنها مجردة من أي مشروع حقيقي يلتقي مع مصالح الدولة التركية، ويزيد من تمدد نفوذها على حساب مصر في ملفات شائكة بالإقليم كما كانت تعتقد، فليس في السياسة شيء بدون مقابل، وما كانت استضافة تركيا للجماعة إلا في إطار هذا المسار النفعي، وكان من الممكن حسم هذا الملف مبكرا مع مصر، لكن الطبيعة الصلبة التي تنطوي عليها شخصية الرئيس أردوغان ورغبته في اتساع مساحة المناورة، وعصر كل أوراق التفاوض لجني أكبر مكاسب على الأرض، إضافة إلى تعدد بؤر الصراع في الإقليم حالت دون ذلك، وحين تهيأت السياقات الإقليمية وأوجدت تركيا لنفسها روافع جديدة تزيد من قدرتها لأن يكون لها دور سياسي فاعل ومؤثر عالميا، استقام المنسم وعدلت من سياستها تناغما مع طبيعة المرحلة ومتطلباتها، فكانت الغاية من احتضان تركيا للتنظيم إحراز هدف تكتيكي لتحقيق هدف استراتيجي بعيد المدى.

عادت مصر وتركيا إلى المربع الأول وما كان متاحا من قبل لم يعد له وجود الآن، فلا صوت يعلو فوق صوت المصالح ومن غرّرت به الشعارات فلا يلومن إلا نفسه، فالبدايات تدل على المسارات، والحياة مقدمات تؤدي إلى نتائج، وأولى خطوات علاج الأزمات هو تجنب الأزمات، وقد تسبب هذا الملف في مظالم إنسانية وسياسية كبيرة وخلق كثير من الذرائع لتعميق جرح المُغرّر بهم والتضييق عليهم مع تحميلهم كثير من المغارم وللقيادة المغانم، فالجماعة لم تكن أهلا لتحمل المسؤولية فيما يخص شأنها الداخلي وأحوال شبابها في الغربة. 

لم تستطع الجماعة أن تدمج بين الخيارات للخروج بنتائج أفضل ضمن أي تسوية حقيقية لإنهاء الأزمة، بل فاقمتها أكثر، وكلما طالت الأزمة شبرا زادت الأرصدة ذراعا، واتسعت رقعة الامتيازات باعا وعلت نبرة المظلومية مع تصدير خطاب فانتازيا لتخدير الشباب وإيهام الحاشية بأن الأمور تتجه نحو الأحسن، والآن يبحث بعضهم عن طوق نجاة للخروج من إسطنبول، في ظل تنسيق أمني إقليمي ضيّق عليهم الدائرة، وقد يتطور لاحقا بتسليم المتورطين في قضايا عنف إلى مصر، وكأن لسان حالهم يقول الآن: فلو أن لنا كرةً فنكون من المصلحين.