هشام النجار يكتب: غنوا يا أفغان ويا عرب ويا أفارقة.. تفلحوا

ذات مصر

قرأت هذا الخبر ضمن شريط الأنباء "أضرمت سلطات طالبان الأفغانية النار في آلات موسيقية ومعدات أخرى في ولاية هرات نهاية الأسبوع الماضي، واصفة الموسيقى بأنها غير أخلاقية، وقال رئيس دائرة هرات بوزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عزيز الرحمن المهاجر إن (الترويج للموسيقى يؤدي إلى الفساد الأخلاقي وعزفها يضلل الشباب) ".

على الرغم من أن الراجح فقهيًا هو أن الغناء والموسيقى مباحان إلا أن القادة والمفتين بالجماعات يعلنون أمام أتباعهم خلاف ذلك حتى لا يُقال أنهم أفتوا بإباحة الشائع حاليًا من صور الفنون عمومًا ومن مظاهر حفلات موسيقية وغنائية، وهذا في حد ذاته جناية على الشريعة وخطأ فقهي فادح.

نوضح أكثر بهذه الواقعة الحقيقية التي ذكرها الشيخ أسامة حافظ (وهو أحد المفتين المعروفين بالجماعة الإسلامية المصرية) على بوابة الجماعة على الإنترنت، الذي نقل عن الشيخ عمر عبد الرحمن المفتي الرئيسي للجماعة أنه طلب منهم في السجن أن يجمعوا له الكتب التي تناولت هذا الموضوع بعدما ثار الجدل حوله بسبب إصرار أحد الأعضاء داخل السجن على سماع الغناء والموسيقى تأثرًا بمذهب الإمام ابن حزم.

وعكف الشيخ عمر على قراءة تلك الكتب، ثم قال نصًا "إن أدلة الإباحة أقوى ولكن يصعب على المفتي أن يقول بذلك، لأن أذهان الناس ستنصرف على الفور إلى المعتاد من هذه الموسيقى والأغاني".

هنا وقع الشيخ عمر ويقع القادة والمفتون بحركة طالبان الأفغانية –وكل الجماعات الدينية- في خطأ فقهي فادح؛ لأنه يجب التفريق بين الأصل الحلال المباح الذي يجب الاستفادة منه ونفع الناس به تثقيفًا وترويحًا وترفيهًا وتوظيفه لنشر الوعي والخير والقيم الإيجابية، بدلًا من التأثر بمظاهر الانحراف التي طرأت أو الخوف من أن يخلط الناس بين هذا وذاك.

لا مجال لهذا الخلط لأن المسألة في غاية الوضوح والفارق شاسع بين من يوظف الفنون للانحراف والتعري والرذيلة ونشر الجريمة والفساد وبين من يوظفه للفضائل والقيم ومكارم الأخلاق ومعالي الأمور وخدمة قضايا الأمة والوطن ونشر الخير وإيقاظ الوعي واستغلاله كداعم ومحور بناء في حركة الإحياء والتجديد، وأيضًا في ترقية المشاعر والأحاسيس وعاطفة الحب بين البشر بدون ابتذال وإسفاف.

لا مجال لهذا الخلط لأنه فارق شاسع بين من يوظف الفن في نشر قيم الخير والجمال والمعروف والبر والحب والتسامح ومن يوظفه في الابتذال والإسفاف، فارق بين المسرح والبار، كما أن الفن قدم للمعرفة والثقافة وللمشاعر الإنسانية وللقضايا الوطنية خدمات جليلة وشخصيات تُعد علامة مضيئة في التاريخ الإنساني.

هناك مبدأ في الشريعة يقضي بأن الحرام الطارئ لا يحرم الحلال الأصلي، وهو ما نصت عليه القاعدة الأصولية الشهيرة (الأصل فى الأشياء الإباحة)، فالفن عمومًا إذا لم يطرأ عليه حرام متفق عليه فهو مباح، ولا ينبغي أن نحرم الأصل الحلال المباح لأنه طرأ عليه حرام وجاء لاحقًا من أدخل عليه صورًا وممارسات مرفوضة واستغله لترويج أفكار هدامة أو أخلاقيات منحرفة فى فترة من الفترات.

إنما نفصل في القضية ونخصص فيها ولا نعمم؛ فنقول تحديدًا: هذا الأمر بصفته وعينه مرفوض وهذه الأغنية بتلك الكلمات وهذا الأداء الهابط المبتذل مرفوضة، وهذا المشهد السينمائي بعينه مرفوض لأنه خارج على حدود اللياقة والذوق العام وتقاليد المجتمع وأعرافه، لكن لا نقول بتحريم الفن والإبداع على وجه العموم بسبب بعض الممارسات الخاطئة الطارئة على الأصل المباح، سواء طرأت في عصور سابقة أو طرأت في العصر الذي نحياه، حتى وإن كانت هي الغالبة للعيان اليوم.

جاءت غلبة هذه المظاهر على غناء تلك الأيام وعلى مجمل الفنون بصفة عامة، فلم يعودوا يفرقون –لطول الألفة– بين الفن والحرام ولا بين الأصل والطارئ عليه؛ حيث أصبح من الصعب فى تصورهم فصل هذا عن ذاك، فقضى بعض فقهاء وعلماء هذه العصور بالتحريم على الإطلاق، مخالفين بذلك القاعدة الأصولية سالفة الذكر (الأصل فى الأشياء الإباحة)، وأن الحرام الطارئ لا يحرم الحلال الأصلي، وأن أصل الفن والإبداع يبقى مباحًا كما هو إذا تم توظيفه واستغلاله في تحقيق ما يصلح ويسعد البشر، وفي الوصول إلى الغايات العليا من القيم الإنسانية النبيلة، وأنه لا حرام مطلق إلا الذي جاء بنص واضح وصريح في الشرع، وإلا الذي حرمه الله ورسوله وجمهور علماء الأمة.

استدل علماء الأصول على أن (الأصل فى الأشياء الإباحة) بقول الله عز وجل "ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة"؛ فلا شيء حرام إلا ما ورد نص صريح في القرآن أو السنة بتحريمه، فإذا لم يكن وإذا لم يرد ظل الأمر على أصل الإباحة، ولا يملك أحد تحويله إلى الحرمة، لمجرد طارئ قد طرأ عليه أو لبعض الممارسات التي مورست تحت عنوانه، ومنهج علماء الإسلام الراسخين هو إباحة كل شيء إلا ما حرمه الله، وربنا جل وعلا لم يحرم إلا الشرور والخبائث والمفاسد والموبقات الضارة بالإنسان نفسيًا وعقليًا وجسديًا واجتماعيًا واقتصاديًا.

قد أنكر القرآن الكريم أشد النكير على من ينصبون أنفسهم مفتين يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم، وقد وصفهم الله في كتابه تارة بالمفترين وتارة بالمعتدين، فيقول المولى جل شأنه: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، ويقول سبحانه وتعالى "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون". 

الإسلام ليس ضد أصل الفن، لكنه يتعامل بندية في مواجهة الهبوط والانحراف والفساد والابتذال، بمعنى أنه لا يعارض أصل الأشياء ولا يسعى لنفيها وطمس ملامحها واجتثاثها بالكلية، إنما يواجه الجزئيات المنحرفة ويتعامل معها بروح المنافسة والنقد لردها للأصل الطيب، أو على الأقل لتقليل تأثيرها الجماهيري المجتمعي السيئ وجذب جمهورها العريض نحو التوظيف الأمثل للفن ونحو إنتاج مبدعيه المخلصين لرسالته السامية؛ فالمواجهة في الأساس ليست مع الفنون –كونها فنونًا– إنما مع جزئيات عارضة وفروع وممارسات طارئة، أما الفن فساحاته وعطاءاته رحيبة فسيحة تسع الجميع.

كلمتي الأخيرة للأفغان ولكل شعب أو مجموعة من الناس قادها حظها العثر إلى الوقوع تحت سلطة حكم شمولي لجماعة تزعم أنها أصولية وأنها تحكم بالشرع وبالإسلام والإسلام في حقيقته وجوهره منها برئ.

أقول يا أفغان ويا كل شعوب الأرض المقهورة تحت نير حكم منغلق متطرف، ما تغنى به صلاح جاهين عندما قال: (يا عندليب ما تخافش من غنوتك قول شكوتك واحكي على بلوتك الغنوة مش حتموتك، إنما كتم الغنا هو اللي هيموتك).

غنوا يا أفغان ويا سوريون ويا أفارقة، ويا كل من وقعتم تحت براثن حكم المتنطعين المتشددين.. غنوا يا كل شعوب الأرض؛ فالناس مهمومة ويكفيها تعب الحياة وما تلاقيه من مشقة.

غنوا واعزفوا واستمعوا للموسيقى فهذا حقكم كبشر في التمتع بالحياة، غنوا وأسمعوا الدنيا أصواتكم فالعمر قصير ولو قسناه بالمقارنة بطريقة استمتاع غيرنا من البشر في دول الغرب بالحياة سنجده قزمًا بل لا يكاد يُرى على وجه الأرض.

غنوا واعزفوا وحاربوا القبح والبؤس وشظف العيش والجوع والفقر الذي تسبب فيه المتطرفون من الفاشلين في إدارة الدول، لكي تشعوا على الأقل ما زلتم على قيد الحياة ولا زالت لكم قلوب تشعر وتحلم بالأمل وتحس ولو بالضئيل من الفرحة والبهجة، وأقسى درجات الظلم والكبت والقهر ألا يحس الناس حتى بالجمال الذي نثره خالق الكون في الحياة وفي الحواس وفي العقل، وأن يظلوا طول حياتهم فقط يشتكون من المعيشة الصعبة وضيق الحال.

غنوا يا أفغان ويا سوريون ويا ليبيون وبا عرب ويا أفارقة وآسيويون.. لا تخضعوا للسواد والظلام وكآبة المتنطعين ولا تبخلوا على أنفسكم المكبوتة المبخوس حقوقها وعلى الغلابة المطحونين ببعض الفرح والبهجة والسعادة التي تنعش قلوبكم الذابلة.
اقرؤوا القرآن أولًا وافهموا مراد الرب الحقيقي، وغنوا وصدقوني فطالما تغنون فأنتم قريبون من الحق؛ حق البشر في الحياة والمتعة بعيدًا عن متاهات العقول المتحجرة التي تردد أقوال مكذوبة على الرسول المُعلم لتفرض الكآبة على الخلق.