فراج إسماعيل يكتب: النقطة أبعد من النيجر

ذات مصر

لم يتقبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الخلع نهائيا من آخر حلفائهم في حزام الانقلابات العسكرية الذي يمر بست دول في منطقة الساحل الأفريقي، تمتد من الأطلسي إلى البحر الأحمر.

خسارتهم النيجر ليست كأي خسارة. في الواقع تؤلمهم أكثر من خسارة أوكرانيا. الانقلاب الذي أطاح بحليفهم المنتخب ديمقراطيا الرئيس محمد بازوم، يحمل رائحة التمدد الروسي في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل تحديدا، عبر ذراعها الدراكولي (فاجنر) التي سارع زعيمها يفيجيني برويجوغين باعتباره "تحريرا" من المستعمر وهنأهم عليه وطالب الشعب باستكمال المهمة.

انقلاب حرس بازوم عليه الذي رفض حضور القمة الروسية الأفريقية في سان بطرسبرج، مفاجأة مزلزلة للمخابرات المركزية الأمريكية ونظيرتيها الفرنسية والألمانية، فقد فشلت في توقعه رغم الوجود العسكري لتلك الدول في النيجر. هناك 1100 جندي أمريكي وقواعد للمسيرات تكلفة الواحدة 110 ملايين دولار، وقاعدة ألمانية قرب العاصمة نيامي، وقوات فرنسية في المطار وأماكن استراتيجية من العاصمة وحولها.

النيجر تقبع في ذيل الدول الفقيرة وأسفل مؤشر التنمية البشرية العالمي. لا زالت تعيش العصور الوسطى. ملايين العبيد يخدمون الأسياد بدون أجر رغم قانون حظر العبودية الذي أصدرته البلاد منذ عدة سنوات.

اتخذت فرنسا من الأسياد ظلا لها على أرض النيجر. في منطقة لتجارة العبيد، تباع الفتاة دون الخامسة عشرة بمبلغ زهيد، من 250 إلى 300 دولار، تحت مسمى "الزوجة الخامسة" وهو تعبير عصري يطلق على الجواري أو الإماء. 

يمكن للرجل المتزوج حسب الشريعة الإسلامية من أربع نساء، اتخاذ ما يشاء من الإماء للتمتع الجنسي والقيام بخدمة زوجاته الشرعيات، وتحمل كل واحدة مسمى "الزوجة الخامسة".

تلك الظاهرة توجد في الريف والحضر، وفي كل الفئات الاجتماعية من طوارق وبدو وهوسا، وداخل نخبة "الأسياد" الذين يتولون قيادة البلاد، ويمتلكون الأرض والثروة والعبيد. 5% يستعبدون 95% من السكان.

حزام الانقلابات، غضب اجتماعي على الاستعباد والفقر وعلى عجلة التاريخ المتوقفة عند العصور الوسطى، حينما كانت رحلات العبيد تنطلق بلا عودة في اتجاه الأمريكتين وأوروبا الغربية.

زاد قانون حظر الاسترقاق الطين بلة. حرر العبيد لكنه لم يوفر لهم سبل العيش. الأسياد يملكون المال والتجارة والثروة، والعبيد الذين كانوا ضمن ممتلكاتهم، تحررت أجسادهم، لكن لم يعد لهم مصدر للعيش.

ظهرت طبقية جديدة قسمت العبيد إلى طبقات تؤدي كل منها دورا محددا في خدمة السيد مقابل الفتات. وظلت المستعبدات في بيوت الأسياد يؤدين وظيفة "الزوجة الخامسة".

الديمقراطية الغربية التي انتخبت الحكام، تركتهم يتمتعون بأصوات العبيد من خلال الصندوق، وأنى لمستعبد لا يملك خبزه وماله إلا من خلال سيده، أن يختار حاكمه اختيارا حرا؟!

لهذا تكثر الانقلابات العسكرية التي تأتي بأسياد جدد يملكون عبيدهم. شهدت النيجر خمسة انقلابات منذ استقلالها 1960.

النيجر هي الفرصة الأخيرة للهيمنة الأمريكية الغربية على أفريقيا، فإذا تسامحتا مع الانقلاب الذي رفع أنصاره العلم الروسي، فسيعني ذلك انسحابا اقتصاديا وسياسيا، خصوصا أن حجم التبادل التجاري للولايات المتحدة مع القارة الذي بلغ 80 مليار دولار، بدأ في التناقص منذ عام 2008.

حجم التبادل التجاري مع الصين احتل المركز الأول بقيمة تتجاوز 95 مليار دولار، وهو المهدد الأول لأمريكا، وليست روسيا التي تتمدد بذراع عسكرية عبر فاجنر.

روسيا التي لا يتجاوز تبادلها التجاري مع القارة الأفريقية 18 مليار دولار، انتبهت أخيرا لضرورة الإغراء بجزرة الاقتصاد. من خلال القمة الروسية الأفريقية الأخيرة في سان بطرسبرج خاطبت الحاجات الإنسانية في دول حزام الانقلابات، بمبادرة شحن الحبوب مجانا.

ما يحصل حاليا، أبعد من نقطة النيجر. هناك صراع سياسي اقتصادي بين روسيا والصين من جانب، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جانب آخر.

الصين تبدو في وضع المتفرج فهي تتفوق على الجميع بسلع رخيصة ومنتجات اكتسبت الكثير من الجودة التي كانت تنقصها، وبإغراءات الاستيراد من دول القارة التي تضخ في اقتصاداتها مليارات الدولارات. أحدها مشروع الحزام الأخضر الذي يمد الصين بالمنتجات الزراعية الأفريقية، إضافة إلى المعادن والنفط.

روسيا بسبب إجهادها في حرب أوكرانيا خارج الصراع مؤقتا رغم أنها تصنع تلك الانقلابات أو بمثابة حديقته الخلفية.

وها نحن نرى رد الفعل القوي من الرئاسة الفرنسية التي هددت بالتدخل الفوري في حال تعرض مصالحها أو جنودها للخطر، وكذلك الاتحاد الأوروبي، وقبلهما الولايات المتحدة التي طالبت بالعودة الفورية للرئيس الشرعي.

وكتبت "الواشنطن بوست" أن أمريكا لن تتسامح مع انقلاب العسكر في النيجر، ولن تكرر تسامحها مع انقلابات سابقة في بعض الدول نظرت إليها في حينه بعيون مصالحها القومية.

تظل النقطة الأبعد هي الواقع الاجتماعي المرير. احتياج الإنسان الأفريقي إلى التحرر الحقيقي من براثن الأسياد الذين يتاجرون به بالوكالة عن الغرب وأمريكا.

تلويح المتظاهرين بالعلم الروسي هو حنين حقيقي إلى التحرر الذي هنأهم عليه زعيم فاجنر بعد استيلاء العسكر على السلطة.

سيبدو الأمر أن منظمة “الإيكواس” وهي منظمة اقتصادية سياسية لدول غرب أفريقيا ستتدخل عسكريا، وقد هددت بذلك إذا لم يفرج عن الرئيس المنتخب محمد بازوم وعودة النظام الدستوري بالكامل خلال أسبوع.

“الإيكواس” لا تجرؤ على التدخل العسكري وحظر سفر قادة الانقلاب، بدون رعاية الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي.

قد يعود الرئيس بازوم، لكن ما الذي يمكن تقديمه لمن فرحوا ورقصوا ورفعوا علم روسيا على أمل تحريرهم وتخليصهم من استعباد الأسياد والنخبة الحاكمة.

عندما زار أوباما -وهو أول رئيس أمريكي من أصول أفريقية- جزيرة تصدير العبيد في السنغال، اعتبر أفارقة غرب القارة، أن المعنى الرمزي لزيارة جزيرة كانت بوابة تصدير العبيد إلى الأمريكتين، هو اعتذار أمريكا عن أغلاطها مع الأفارقة الذين تعاملت معهم كسوق لها ولمصالحها.

انتهى عهد أوباما كرئيس أسود وبقيت أغلاط أمريكا كما هي في القارة السوداء.