هشام الحمامي يكتب: الفكر والرأي إذ يحكمان ويتسلطان!!.

ذات مصر

تجربة الأحزاب الفكرية في الحكم السلطة عبر التاريخ الإنساني ليست لها سمعة طيبة ..فعلى الرغم من أن العقائديين وذوى الأفكار الجديدة هم أكثر من عانى من التهميش والاضطهاد، إلا أنهم حين ملكوا السلطة.. مارسوا مع خصومهم نفس الدور..

 بل وأيضا مع رفاق الدرب المختلفين معهم، وهو شيء إن دل فإنما يدل على حالة نفسية غريبة تستدعى الانتباه والتوقف عند الدوافع العميقة لاعتناق هذه الأفكار التي عادة ما تكون متجاوزة لسلوكيات أهل الدنيا من غيرة وغل وتخاصم .

فى التاريخ الإسلامي تجارب كثيرة لذلك.. أهمها في تقديرى  تجربة المعتزلة ( أهل العقل والتوحيد!) الذين عانوا كثيرا من الاضطهاد وهم خارج السلطة، وما أن عرفت أفكارهم موضع التطبيق وتمتعوا بخيرات السلطة وجاهها، حتى تحولوا إلى جلادين للمختلفين معهم

***

يعود الفضل لوصول المعتزلة للسلطة فى عهد الخلفاء العباسيين المأمون والمعتصم وبعض أيام المتوكل إلى مفكر كبير من مفكريهم يدعى (ثمامة بن أشرس ت/828م).. كان رهيبا ، ولم يكن له تسمية وظيفية فى دار الخلافة،  إذ رفض الوزارة ، وفضل أن يكون فى موقع أعلى من الوزارة.

(يقولون أن الأستاذ هيكل ت/2016م كان شديد التأثر بهذا المفكر)

..ثمامة بن أشرس هو الذى رشح (الجاحظ ت/868م) أديب العربية الكبير لمنصب (رئيس ديوان) الكتاب فى القصر العباسى...

والجاحظ بالمناسبة، له فى المعارضة السياسية نص مدهش ، يستدعى القراءة ، يقول فى بعضه (السلطان لا يخلو من متأول ناقم ،ومحكوم علية ساخط.. ومعجب برأيه ذو خطل فى بيانه.. مولع بالاعتراض حتى كأنه رائد لجميع الأمة ووكيل لسكان الأرض.. ومنهم من أفسده طول الفراغ.. خامل فى الجماعة ..رئيس فى الفرقة .. نعاق فى الهرج ...الخ) .

 سنلاحظ هنا أنها نفس الاتهامات المتبادلة بين من في السلطة ومن يريد أن يكون في السلطة ..

***

محمد بن عبد الملك الزيات(ت/847م) كان من أشهر رجالات المعتزلة وقادتهم الكبار، تطورت به الدنيا والأيام، وأصبح وزيرا للمعتصم ثم الواثق .. 

حين جاء الى السلطة انقلب انقلابا دراماتيكيا ، وتحول إلى جلاد رهيب ، وبالغ فى وسائل التعذيب لقمع المعارضين ، واخترع لهم أله تعذيب اسمها (التنور) عبارة عن أسطوانة كبيرة مليئة بالمسامير، كان يضع خصمه داخلها ، ثم يحميها بالنار.. ويظل صاحبنا يتقلب على النار والمسامير أمام عينيه حتى يموت.

وكان الجاحظ ينصحه بالكف عن هذا السلوك المزرى، كانت بينهما صداقة حميمة، وأرسل اليه مرة رسالة يقول فى بعضها (احذر من ليس له ناصر إلا الله، ولا سلاح له ، إلا الابتهال إلى مولى لا يعجزه من شيء..) 

تروى الروايات التاريخية أن (بن الزيات) كان نموذجا مثاليا لصاحب الفكر، الذى أفسدته السلطة.. وهو على أي حال دارت عليه الأيام، وجرب بنفسه التنور، الذى اخترعه لمعارضيه.

***

كون الأفكار والسلطة فى التجربة الإنسانية محملة بإرث سىء.. فهذا لا يعنى أن يكون فى السلطة من لا يحملون أفكارا، ولا عقائد.. 

ليس هذا مقصدى ، فالمشكلة ليست في الأفكار، ولا حتى في الأفراد إذا كانوا أفرادا.. 

المشكلة تكمن في (الحزب العقائدي)  .. وليس في كونه حزبا .. وليس أيضا في كونه عقائديا .. لكن متى تكون المشكلة وتبرز  ..؟؟  حين يتحول الحزب وأفراد الحزب وأفكار الحزب إلى (طائفة مغلقة) .. الى (حالة مغلقة) ..  تشعر بسيادتها وتميزها وارتفاعها فوق الناس العاديين.. ليس فقط دولة فوق الدولة .. ولكن بشر فوق البشر .. وأفكارا فوق الأفكار.

***

والطرافة كلها حين يقتربون من السلطة أو يحوزوها..  لا ترى منهم إلا كل أفكار البشر العاديين، ومن شهوات عادية وأدنى من عادية ، بل وتفوح منها كل الروائح الكريهة للخيانات والتبريرات الكذوبة .. أبسطها خيانة النفس والضمير .. والكذب المزخرف على التاريخ والأفكار التي حملوها عبر التاريخ .. من ينسى روسيا وسلطة البلاشفة( ثورة 1917م)، ماذا فعلوا فى معارضيهم، وماذا فعلوا فى بعضهم البعض .. من ينسى تجربة السودان والدكتور الترابى ورفاقه (انقلاب 1989م

***

للأسف التاريخ يعج بالفظائع المريعة فى هذا الموضوع ..  وفى النهاية سنجد أن أفضل مكان لأصحاب الأفكار وأصحاب العقائد هو المجتمع الناس .. والحمد لله أن تنوعت و وتعددت كثيرا صور وأشكال الحضور الاجتماعي الواسع في حياة الناس بعيدا عن السلطة واغواءتها وإغراءتها وفتنتها وخصوماتها وصراعاتها .. هذا لمن أراد الحق .. ولم يرد غير الحق .. ولم يتلاعب حول هذا المراد بحيل وتبريرات الخداع .          

خداع النفس وخداع التاريخ .. لكن التاريخ يأبى من يخادعه .. ولا يرضى بغير الحقيقة وإن طال خفاؤها.