محمد حماد يكتب: في مئوية هيكل.. الحنين إلى زمن «الصحفي الأوحد»

ذات مصر

23 سبتمبر 1923 ـ 23 سبتمبر 2023، مائة سنة هيكل، قرن من التألق في الحضور والغياب، قرن «الأستاذ» الكاتب العربي الأشهر، و«الجورنالجي» المصري الأهم في القرن العشرين بلا منازع.

اختلف معه ما شاء لك الاختلاف عليه، انقد كما يحلو لك كثيرًا من مواقفه، لا تسامحه في قليلٍ من انحيازاته، حمّله المسئولية عن أحداث كبرى في تاريخنا المعاصر، ارفعه إلى مصاف من حكموا مصر، أو انزل به إلى صفوف من طبلوا لكل الرؤساء، افعل معه ما تشاء، وانظر إليه كما تريد، ولكنك لا (ولن) تستطع أن تنزله من منزلته التي حفرها بقلمه في مقدمة الكتاب والصحفيين في العالم قبل أن يكون فوق كل منزلة بين الكتاب والصحفيين في مصر والمنطقة العربية بأسرها.

100 سنة هيكل كانت من أهم وأخطر السنين في تاريخ البشرية، شهدت انهيار عصور قديمة وسقوط امبراطوريات كانت لا تغرب عنها الشمس، وبزوغ عصر عالمي جديد يبدو اليوم ونحن في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين أنه يمضي بتسارع مخيف في طريقه إلى تغييرات كبرى.

**

كتبت عن هيكل والسلطة كتابًا تصدر طبعته الثانية خلال معرض الكتاب القادم، وهو بكل تأكيد ليس محسوبًا في عداد كتب الدراويش تلك التي تنزهه عن كل عيب، وترفعه فوق مستوى النقد، وهو بكل موضوعية ـ كما حرصت على التأكيد على ذلك في مقدمته ـ لا يدخل في سجلات الكتب التي تحسب ضده، رغم أني سجلت فيه مآخذي على الكثير من المواقف، واختلافي مع الكثير من الأفكار، ونقدي للقليل من الانحيازات.

مع ذلك كله، ورغم ذلك كله، أجدني في حالة حنين إلى زمنه، وتوق إلى وجوده بيننا، وشوق إلى سماع تحليلاته لكل هذه المتغيرات التي تضرب سطح الكرة الأرضية وجوفها.

**

في زمن تحولت فيه الصحافة إلى مهنة من لا مهنة له، وضعفت المهنة، وضاق الحال بالأغلبية الغالبة ممن يمتهنونها، وتحولت الصحف أو تكاد إلى صحافة «الصوت الواحد»، يكون طبيعيًا أن يشتاق المرء منا في مثل هذا الزمن إلى عصر «الصحفي الأوحد».

في الزمن الذي يفتقد فيه القارئ إلى أصوات مختلفة، وأقلام متمكنة، وغلب فيه الصوت المسيَّد، وتحولت فيه الصحف إلى أبواق دعائية تردد ما يقال لها، وتكتب ما يُملى عليها، وتفتقد حتى إلى الابداع في التعبير المهني عما يراد لها أن تعبر عنه، يتطلع المرء إلى زمن «الصحفي الأوحد»، حيث يتلهف القراء على مقالات «بصراحة»، وأعمدة أحمد بهاء الدين، وأنيس منصور، ومقالات احسان عبد القدوس، وصحافة مصطفى وعلي أمين، وموسى صبري، جلال الحمامصي، ومصطفى بهجت بدوي وكتابات سعد الدين وهبه، ومحمد عودة، وفيليب جلاب، ومحمد العزبي وزكي نجيب محمود ولويس عوض.

نشتاق لعصرٍ كنا نقرأ فيه لكامل زهيري، ومحمد عودة، وأحمد بهاء الدين، وسعد وهبة، وحسين فهمي، ومحمود السعدني، وفتحي غانم، وعبد الرحمن الشرقاوي، ويحي حقي، وحسين فوزي، وعشرات من كبار الكتاب الآخرين. 

وأغلب هؤلاء استكتبهم هيكل على صفحات الأهرام في عز مجد الصحيفة التي كانت عريقة.

**

أعترف أنني واحد من ملايين يملؤهم الشوق إلى يوم كنا ننعم فيه بقراءة الأستاذ، يوم كنا ننتظر «بصراحة» كل أسبوع كأننا على موعد غرامي، أذكر أني كنت أجلس تحت قدم عمي أقرأ له مقالاً يملأ صفحة جريدة كاملة، ولم يكن يمل، ولا كنت أتململ، رغم صغر سني وقتها.!!

اشتقنا إلى يوم يرزقنا الله فيه نعمة أن نقرأ لكل الذين واكبوا عصر الصحفي الأوحد، وكانوا نجومًا متلألئة، وشموسًا لم تأفل يومًا في زمن «الصحفي الأوحد».

لو أن الأيام تعود، لدعوت الله أن يُعيد علينا، ويعيدنا إلى يومٍ من الأيام التي سموها زمن «الصحفي الأوحد»، وابتهلت إليه سبحانه وتعالى أن يُبعدنا ويبعد عنا أيام صحافة المتحدة وإعلام السامسونج.

**

لم يكن محمد حسنين هيكل بدعًا من الصحفيين الذين اقتربوا من قمة السلطة في زمانهم، وإن ظل أهمهم، وربما آخرهم.

عباس محمود العقاد كان صديقًا مقربًا من زعيم الأمة سعد زغلول، ومتحدثًا باسمه، وأصبح «قلم الوفد الجبار»، ثم كان محمد التابعي ملكًا متوجًا في بلاط صاحبة الجلالة وصاحب تأثير ضخم في الحياة السياسية، ولعله هو ناظر المدرسة الحديثة التي أسست لدور الصحفي في صناعة الأحداث، وليس مجرد الكتابة عنها.

إحسان عبد القدوس حاول قبل الجميع، ولكن حبه للرواية أخذه من الاثنين، من الصحافة والسياسة، ومصطفي أمين حاول ونجح، ثم أخفق وهوي، وانتهي به الحال محبوسًا على ذمة قضية تتعلق بالسياسة لا بالصحافة.!

**

من بين تلامذة التابعي واحد تفوق على الجميع، افتتح لنفسه مدرسة خاصة كان هو ناظرها ومعلمها ومديرها الوحيد.

كانت قصته بين الصحافة والسياسة مشوار من النجاح دفع به إلى موضع ومكانة حسده عليها كثيرٌ من رجال السلطة قبل الكثير من رجال الصحافة، وظل ـ وما يزال ـ تجربة فريدة في بابها.

برز في أخبار اليوم، وأصبح اسمه مانشيتًا ككبار النجوم والسياسيين، ومن هناك، من صفحات أخبار اليوم كان محمد حسنين هيكل متأهبًا للإقلاع، موضوعًا بإحكام فوق منصة الانطلاق، بالمسافات وبالقياسات الدقيقة، فانطلق إلى طموحه، وسبق الآخرين جميعًا. 

 ذاع صيته بعد كتاب شهير له هو أول كتبه «إيران فوق بركان»، وراح بعدها يتحسس خطاه في أروقة القوة والسلطة مدفوعًا بطموح ليست له حدود، وجد نفسه مبكرًا يشارك في تسمية بعض وزراء حكومة نجيب الهلالي باشا قبيل ثورة يوليو، ثم راح يتعقب القوة البازغة في الجيش، بعدها وضع أوراقه كلها في سلة القوة الجديدة، وتابع الرجل الأقوى منذ اللحظة الأولي واقترب منه، والطموح يملأه بلا حدود.

**

أخلص هيكل لصحافة شعارها أن الصحافي الكفء قريب من الحدث، قريب من القمة، وكان يتقدم في عالم السياسة بقدر ما يتقدم في عالم الصحافة.

قال مرة ليوسف إدريس ـ في حوار أجراه معه ـ إنه «يمارس السياسة كصحافي»، ومن ناحيتي أقول بقلب مطمئن إنه كان «يمارس الصحافة كسياسي».

ولكنه ظل وفًيًا لكونه صحافي أولاً، عارفًا بأن هذه هي نقطة قوته، نقطة تميزه عن الآخرين، وبقي يردد دائمًا، بمناسبة وبدون مناسبة: «أنا مجرد جورنا لجي».

**

موسى صبري اقترب في علاقته مع الرئيس أنور السادات إلى درجة الالتصاق، وكان له من التاريخ المشترك في بدايات كل منهما ما يسمح له بعلاقة خاصة ومميزة وتأثير كبير، ولكن أحدًا لم يتحدث عن موسي صبري بمثل ما جري الحديث فيه عن هيكل.

حتى أنيس منصور كان مقربًا من السادات، واقترب من حسني مبارك، ولم يذكره أحد في الموقع والمكانة التي يذكر فيها هيكل مع الرؤساء الذين اقترب منهم.

السادات نفسه لم يكن ينظر إلى موسى صبري، أو يرى في أنيس منصور نظرته ورؤيته إلى هيكل.

**

 كان الرئيس السادات هو مروج وصف «الصحفي الأوحد» على هيكل في إطار صراعه معه ومحاولة ضرب مصداقيته، وظل يعزف على هذا للحن طويلًا مع الصحفيين، ومع ذلك ظل السادات حريصًا حتى النهاية على إبقاء هيكل إلى جانبه بشروطه حتى بعد ما انقطعت بينهم السبل، وافترقت الطرق، واختلفت الرؤى والأدوار.

رغم وجود موسى وأنيس إلى جانبه، لكن السادات كان يتوق إلى أشياء أخرى في هيكل غير الدعاية الفجة، كان يتوق إلى مصداقية وصدق وألمعية والخبرات الدولية الواسعة، التي في حوزة ذلك «الصحفي الأوحد».

مع نزول كلمة النهاية على دور محمد حسنين هيكل عند قمة السلطة في مصر بالقرب من صانع القرار، بدأ دور الحاشية، والندماء، والأبواق والكثير من «المديوكرز»، وعشرات من الطبالين، ونظرة سريعة على خريطة الإعلام والصحافة في مصر اليوم تجعلنا نبتهل إلى الله ليل نهار أن يرحم زمن «الصحفي الأوحد» في عالم الكتابة الذي انتقلتا من بعده إلى زمن «القارئ الأوحد» في مقر الاتحادية.