محمد حماد يكتب: عن الكتابة في الهوامش

ذات مصر

خلال رحلتي مع الصحافة والقلم التي طالت إلى ما فوق الأربعين سنة، كان السؤال الذي يلح عليَّ ـ وما يزال ـ لماذا يتوارى الكاتب خلف الكلمات رغم أن الكتابة موقف، والمواقف لا تعرف غير المباشرة والوضوح والتحديد؟، ولماذا يُوري الكاتب إذا كانت الأقلام نفسها لم تعد ترضى ـ في ظل هذه الأحوال ـ إلا أن تُسطر ما هو حقه الكتابة؟

كنتُ دائمًا أعد نفسي واحدًا من الذين يسعدون بفعل الكتابة، وأحسب نفسي في أسعد لحظات حياتي حين أقرأ، وقد عملت أثناء رحلة الحياة في أعمال كثيرة، ولكني ما برحت فعل القراءة والكتابة طول الوقت حتى استقر بي الحال فيما أحببت بعد الالتحاق بمهنة الصحافة في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي.

تركت المحاماة بعد أربعة مواسم قضائية سعيًا وراء الصحافة، تصورت أن المحاماة رسالة، فإذا بالممارسة على أرض الواقع تحيلها إلى "لقمة عيش" وقفت في حلقي، فابتعدت عنها راضيًا غير آسفٍ على ما فاتني من كسب منها.

**

بإرادة واعية اخترت أن أعمل بالصحافة، وأن أبدأ رحلتي معها وقد جاوزت الثلاثين من عمري، وصوبت بوصلتي منذ اللحظة الأولى إلى صحافة الاعتراض، فلم أكن أتصور أن لمثلي مستقبلاً في صحافة تمسك الحكومة برقبتها مباشرة.

كنت أبحث دائمًا عن أوساط أستريح لها وأثق في ثوابتها المهنية، وأستريح أكثر للعمل فيها، وأجد نفسي أكثر توافقاً مع طريقة تفكيرها، وقد دعيت ـ مرارًا ـ إلى الكتابة اليومية في "بعض"، الصحف، وأخطأت مرة بالاستجابة إلى بعض هذه الدعوات من صحيفة وموقع شهير، وكانت تلك واحدة من الأخطاء التي لم أسامح نفسي عنها، وغادرتها على الفور حين بانت رائحتها، وفزت من جديد براحة البال وسعادة الابتعاد عن العمل في أجواء غير صحية ولا صحيحة.

كان رأيي أن عنفوان الكتابة يأتيها من المشي عكس التيار المسيَّد، ولم أكن على وفاق مع هؤلاء الذين استوطنوا الهوامش يكتبون فيها وحولها، فغادروا المتون واستراحوا إلى المسموح، وابتعدوا بأنفسهم وأقلامهم عن وجع الدماغ أو وجع الجيب، هؤلاء الذين امتلأت جيوبهم وارتاحت عقولهم وتركوا المتن فارغًا لا كلمة فيه.

**

تنقلت من صحيفة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، أحاول في كل مرة ألا تتحول الكتابة إلى "لقمة عيش"، وأن تبقى طول الوقت "رسالة".

حين تعثرت خطواتي في البدايات الأولى (بعد غلق الموقف العربي) سافرت إلى قبرص وقت ازدحامها بالمطبوعات الصحفية العربية، ومنها الصحف اللبنانية في زمن هجرتها أثناء الحرب الأهلية، وكان هدفي أن أحصل على سعادة العمل المهني المتطور في تجربة جديدة ومميزة.

عدت من جديد بعد سنة واحدة في الغربة للمشاركة في تأسيس "جريدة العربي"، وبعد انطلاقتها الكبيرة دفعت بي بعض الظروف مرة أخرى إلى الخروج إلى "الإمارات" أبحث عن سعادة أن تكون إضافة حقيقية إلى عمل صحفي، وغادرته والقائمون علبها يقولون: نشكرك على تعويم الجريدة، وكانت تلك لحظة من لحظات السعادة الحقيقية عندي.

وبعد سنة أخرى كانت الظروف التي أخرجتني قد زالت فعدت ليستقر قلمي في جريدة "العربي" أكتب فيها بانتظام لسنوات متتابعة تحت عنوان "سؤال بريء" لمدة تزيد عن عشر سنوات.

أذكر تعليق كثير من المحبين على ما اكتبه تحت عنوان "سؤال بريء"، كانوا يقولون: هو ليس سؤالاً، ولا هو بريء، وقتها كنت مقتنعًا ـ وما زلت ـ بأن الكتابة التي لا تجرح لا يُعول عليها.

**

اخترت على الدوام أن يكون كلامي مباشرًا، ذلك أن التورية لا تصلح في الزمن العربي الذي نعيش، وإذا كان للعرب أهداف لغوية أو جمالية من وراء “التورية” التي هي ستر الخبر وإظهار غيره، فلست أرى أهدافاً جمالية الآن أكثر من “المباشرة”، ووضوح الموقف وجديته.

إن أحوالنا ـ منذ وقت طويل ـ لم تعد تقبل أن يتوارى الكاتب وراء فكرة ملغزة، أو خلف كلمات مهجورة، أو ممسوحة المعني، بل إن أحوالنا هذه لم تعد تقبل ـ بأي حال ـ إلا أن نكون مباشرين، نذهب إلى ما نريد قوله مباشرة، من دون لف أو دوران، ومن أقصر طريق إلى قلب المعنى، وإلى عقل القارئ وقلبه.

العته البادي على شاشات التلفاز لا يصلح معه إلا الكلام المباشر، والعهر المتمثل في سياسات الساسة لا يصلح معه من الكلام إلا المباشر، وربما الجارح، كما أن العهر في الأكاذيب التي احتلت ألسنة بعض المثقفين لا يصلح له الآن غير كلام مباشر، وهذا العهر في كلام الذين يتصدرون الآن ساحة السياسة والإعلام والاقتصاد والاجتماع لم يعد يصلح له غير المباشر من الكلام.

**

لماذا يتوارى الكاتب خلف الكلمات في حين أن المُوَارَاة فعل سلبي، بينما الكتابة فعل إيجابي يمكن أن يتحول إلى فعل فاضح في الصحف السيارة أو المواقع المنتشرة.

الكتابة فعل يجمع بين وعيين، وعي الكاتب ووعي القارئ، يتفاعلان معًا ويصنعان الدور المأمول من وراء كل "كتابة".

الكتابة فعل إيجابي إذا كانت تنويرية دافعة الى الأمام، ورافعة الى المستقبل، وبعض الكتابة يدخل في باب الأفعال السلبية التي تساعد على فرض التخلف لا رفضه، وتبشر بغياب الوعي لا تثويره.

في مذهبي أن الكتابة التي لا تثير عقل القارئ إلى التفكير لا قيمة لها.

وأن الكتابة التي تخلو من دسم المواقف وبروتين الوعي هي كتابة "أرديحي" لا قيمة غذائية فيها، ولا أثر صحي تتركه، لا تترك غير الهزال العقلي والوجدان الأجوف.

الكتابة موقف من الواقع، والقلم انحياز للتقدم، والمهم أن يكون الموقف في عظائم الأمور لا في توافهها، فالكتابة في الهوامش لا يعول عليها.

الكتابة في المتون هي الأصل، والقلم هو بالأساس صوت الشعب، وليس صوتًا لحاكم.

تعلمنا في مدرسة الكبار الصحفية أن أصوات الحكام دعاية و"بروباجندا"، وأن صوت الشعب وعي وفكر واستنارة، وأن الكلمة ـ بل الحرف ـ مسئولية تجاه الوطن.