فراج إسماعيل يكتب: ممرات تنشأ.. ودول تختفي

ذات مصر

في يونيو عام 1992 ذهبت إلى باكو عاصمة أذربيجان، لتغطية الحرب الأولى بين أرمينيا وأذربيجان التي انتهت باحتلال الأرمن لناغورنو كارباخ أو قرة باغ العليا وفق التسمية الأذرية والتي تقدر بخمس مساحة دولة أذربيجان (20 ألف كم).

عندما وصلت إلى المنطقة التي تدور فيها الحرب لم يكن قد تبقى من تلك المساحة في يد أذربيجان سوى مدينة أغدام وتعني "البيت الأبيض". في تلك المدينة رأيت مئات اللاجئين الأذريين، هاربين مما فعله فيهم الأرمن وما قد يفعلونه.

بالرجوع إلى ما كتبته عن تلك الرحلة الصعبة في جريدة "المسلمون" الدولية في حلقتين بتاريخ 5 و12 يونيو 1992 يمكن استنتاج أسباب الفرار الجماعي للأرمن أو التغريبة الجديدة،  عقب نجاح القوات الأذرية في عملية خاطفة 20 سبتمبر الماضي باسترجاع الإقليم الذي أعلنه الأرمن دولة مستقلة باسم "جمهورية "ارتساخ" لم تعترف بها أي دولة في العالم بما فيها أرمينيا التي كانت تطمح في ضمها إلى أراضيها، ولكن وقف حائلا دون ذلك، الوضع الجغرافي المعقد للإقليم الذي تحيط به الأراضي الآذرية من كل جانب، ما يعني اقتطاع أراض أذرية ليست ضمن حدود إقليم ناغورنو كاراباخ، وهي اقتطعت بالفعل لفتح ممر يصل الجمهورية الحبيسة بأرمينيا، ولا تبعد أكثر من 170 ميلا عن باكو.

الأرمن يفرون بسبب خلفية تاريخية تزعم ارتكاب الأتراك العثمانيين مذابح ضدهم أدت إلى تغريبتهم الأولى حول العالم، وخوفا من انتقام يقوم به الأذريون الأتراك الحاليون.

الأذريون تعرضوا في ناغورنو كاراباخ لتغريبة أثناء حرب 1992 اضطرتهم إلى ترك الإقليم تحت وطأة عمليات قتل وتصفية عرقية تعرضوا لها عقب انتصار الأرمن بدعم عسكري من أرمينيا.
لم تكن رحلتي سهلة في ذلك الوقت الذي لم يكن ببعيد عن زمن سقوط الاتحاد السوفييتي. السفارة الروسية تولت منح التأشيرات للجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي. رفضت قنصليتها في جدة منحي التأشيرة بمبرر أن باكو تعيش حالة حرب مع جارتها أرمينيا، وأن أوضاعها الأمنية غير مستقرة. لكني استطعت السفر إليها من طشقند عاصمة أوزبكستان.

لم تكن باكو في حالة حرب مع أرمينيا فقط، بل مع الشيوعيين الذين رفضوا التخلي عن الحكم رغم انتهاء الحاضنة السوفييتية وتؤيدهم روسيا.. لذلك كانت توجه دعمها العسكري والمعنوي لأرمينيا مع وجود قاعدة عسكرية فيها إلى الآن، مما سهل هزيمة أذربيجان في الحرب الأولى وسقوط ناغورنو كاراباخ.

نجحت الجبهة الشعبية الأذرية في خلع الرئيس الشيوعي إياز مطالبيوف الذي فر إلى موسكو، فسهلت روسيا في المقابل احتلال الأرمن للإقليم، وهي نفسها التي سهلت استعادة الأذريين له في 20 سبتمبر الماضي، أي بعد ربع قرن.

أمام مقر الجبهة الشعبية في باكو رأيت عشرات النسوة الفارات من الإقليم يرتدين السواد، قلن إن الأرمن قتلوا أهاليهن وجئن للعاصمة يطلبن المأوى والطعام.

كان رئيس الجبهة أبو الفضل التشي، ويجيد اللغة العربية، مرشحا للانتخابات الرئاسية المقررة في 7 يونيو 1992 حيث انتشرت ميليشيات الجبهة المدججة بالسلاح داخل المقر وحوله.

علي عسكر رئيس العلاقات الخارجية رحب بي بشدة وتحدث عبر الهاتف لجهات عديدة باللغة التركية التي يتكلمها الأذريون، وهي لغة تختلف قليلا عن اللغة التركية الحالية، ذلك أنهم في أذربيجان ما يزالون يحافظون على اللغة الأصلية القديمة التي تحتوي على الكثير من الكلمات العربية.

بعد قليل أخبرني بأنه عين لي مرافقا طيلة وجودي هناك لييسر لي مهمتي وأنه حصل على تصريح بدخولي قره باغ العليا (ناغورنو كاراباخ) وأكمل بحسرة أنه لم يتبق لهم سوى مدينة واحدة سأذهب إليها وهي "أغدام".

أغدام كانت الوجهة الأولى التي تستقبل التغريبة الأذرية الهاربة من الأرمن. في مستشفيات هناك رأيت جرحى ومشوهين، وكبار سن وأطفالا ينامون في العراء في انتظار نقلهم إلى باكو.

الوضع حاليا منعكس، حيث تجري تغريبة الأرمن بكامل إرادتهم وبتوجيهات من حكومة أرمينيا لإحراج باكو دوليا.

التسمية الأرمنية "ناغورنو كاراباخ" تعني مرتفعات البستان الأسود. لم أجد أثرا لبستان أسود، بل تغريبة إجبارية لـ65 ألف أذري يسكنون الإقليم، ومكبرات صوت تأمر سكان 65 قرية ومدينة من الأذريين بالخروج.

يقف التاريخ وراء هذه الحروب الحديثة. يقول الأرمن إن الإقليم لهم، والدولة العثمانية أخرجتهم منها وجعلت أرمن أرمينيا يعيشون في الشتات.

ويرد عليهم الجانب الآخر بأن أرمينيا نفسها دولة مصنوعة وكانت في الأصل خانات تابعة لأذربيجان، وعاصمتها بريفان مدينة أذرية خطها الشاه إسماعيل خاتان في القرن الخامس عشر، باسم أريفا وبنى فيها سبعة مساجد.

ويقولون أيضا إنه قبل ثلاثة أعوام من حرب 1992 - 1994 كان يعيش في أرمينيا نصف مليون أذري تم طردهم جميعا عندما بدأ الحزب القومي الأرميني في تنفيذ مخطط أرمينيا الكبرى الذي تم وضعه عام 1896 ويلغي دولة أذربيجان، ويمدد حدود أرمينيا من البحر الأسود إلى بحر كسباينس الذي تطل عليه أذربيجان.

نزاع الأرمن والأذريين قائم حول الإقليم منذ عشرينيات القرن الماضي في أعقاب الحرب العالمية الأولى مع أنه إقليم معترف به دوليا كجزء من أذربيجان.

في السنوات الأخيرة شهدت ثلاثة حروب بدءا من عام 1992.. تأرجح الموقف الروسي خلالها من التأييد الكامل للأرمن ومساعدتهم في الاستيلاء على الإقليم وعلى أراض أذربيجانية تقع خارجه وخلق ممر يصله بأرمينيا.

في الحرب الأخيرة الخاطفة تخلت موسكو تماما عن الأرمن بفعل التغيرات الجيوستراتيجية وأهمية البديل الأذربيجاني الغني بالطاقة لتصدير الغاز المشترك في بحر قزوين في ظل الحظر الغربي على نفط وغاز روسيا، وكذلك إرضاء لتركيا التي أصبحت لاعبا مهما في ظل الحرب الأوكرانية الروسية.

خلال ربع قرن (من 1992 إلى 2023 حدثت تغريبتان أذرية وأرمينية لعبت فيهما العوامل الدينية والتاريخية الدور الأكبر، فمنذ العشرينات ظل نزاعا بين مكون أرمني مسيحي ومكون تركي فارسي مسلم.

الآن أرمينيا نفسها كدولة مستقلة وذات سيادة أصبحت مهددة بالزوال بسبب انتفاء الحاجة الجيوستراتيجية الروسية والتركية والإيرانية إليها، فهي دولة لا مستقبل لها، وباتت مهددة بالاختفاء شأنها شأن "اراتساخ" التي أعلن رئيسها موتها وحل جميع مؤسساتها قبل حلول يناير القادم، وقد انتخب قبل أيام فقط من سقوط ناغورنو كاراباخ. 

هذا الرئيس المنتخب لـ"اراتساخ" وهو الاسم الأرميني لإقليم ناغورنو كاراباخ يعتبر مواليا لروسيا، مما أثار علامة استفهام حول استسلام قواته السريع وإلقاء أسلحتهم أمام الهجوم الأذربيجاني الخاطف؟!

العالم كله يتغير جغرافيا وسياسيا.. وأرمن ناغورنو كاراباخ شاهد ملك على ذلك. خرائط جديدة يصنعها الأقوياء والمنتصرون كما صنعوها من قبل. هذه المرة بدافع السيطرة على الممرات والطرق وثروات الغاز والبترول.

على من يأتي الدور في سايكس بيكو التي يعاد بعثها من خلال صناعة الموت والتغريبات ومشاريع الممرات؟!