نساء مهرجان برلين.. حصة الأسد للمشاركة العربية

في عروض برامج الدورة الحادية والسبعين لمهرجان برلين السينمائي 2021 المنقسمة على جزأين (أولهما افتراضي للصحافة والصناعة في الفترة ما بين 1 إلى 5 مارس الجاري، وثانيهما يفترض إقامته على أرض الواقع للجماهير في صيف هذا العام) كان الحضور العربي واضحًا أكثر مما كان العام الماضي، لا من ناحية عدد الأفلام المنتجة، بل على مستوى المشاركة في المسابقات وبرامج المهرجان المختلفة. واقتصرت معظم المشاركات العربية خلال العام الماضي على برامج المنتدى والمنتدى الموسع، لكن هذا العام جاءت المشاركة في المسابقة الرسمية بفيلم "دفاتر مايا" لجوانا حاجي توما وخليل جريج (لبنان)، وفي مسابقة "لقاءات" كانت مشاركة سماهر القاضي بفيلمها "كما أريد" (فلسطين، مصر)، بينما في قسم البانوراما شاركت ثلاثة أفلام هي "سعاد" لآيتن أمين (مصر) و"أعنف حب" لإليان الراهب (لبنان) و"ع أمل تجي" لجورج بربري (لبنان)، وأخيرا تأتي مشاركة فيلم شريف الزهيري "سبع سنوات حول دلتا النيل" (مصر) في قسم المنتدى الموسع. المُلاحظ في المشاركة العربية هذا العام أن 4 من أصل الأفلام الستة المشاركة هي من إخراج نساء، وتناقش تلك الأفلام قضايا مختلفة، من بينها قضايا الفتيات المهمشات في أقاليم مصر، كما في "سعاد"، وحاضر فتيات لبنان المهاجرات واكتشافهن لتاريخ بلادهن من خلال دفاتر أمهاتهن في "دفاتر مايا" أو حتى اكتشاف رجل مهاجر ذي هوية جنسية مختلفة في "أعنف حب"، وصولا إلى مناقشة صريحة لمشهد التحرش الجنسي في مصر في "كما أريد". الفيلم اللبناني "ع أمل تجي" من إنتاج امرأة هي كريستيل يونس، ما يجعل قرابة 80 في المائة من المشاركة العربية بالمهرجان قدمتها نساء.

 مشهد من فيلم سعاد

 

سعاد.. أحلام فتيات الأقاليم في مواجهة الواقع

في فيلمها الروائي الطويل الثاني، اختارت المخرجة آيتن أمين (مخرجة فيلا 69، وسابع جار) موقعا جغرافيا واجتماعيا لبطلات فيلمها، يحدد الكثير من تفاصيل حياتهن، فهي تبتعد عن القاهرة كموقع معتاد لأبطال وبطلات السينما المصرية، وتختار محافظة الشرقية، في دلتا مصر، لكي تكون موطنا لبطلتها الحالمة بلقاء حبيب في الإسكندرية. يمتلك فيلم "سعاد" أسلوبا سينمائيا متقشفا يجمع بين الوثائقي والروائي من ناحية الديكورات الواقعية والكاميرا المهتزة، وحتى سطور الحوار التي لا تنتمي لأفلام السينما التجارية، والتي توفر حسا تلصصيا على واقع تلك الفتيات. الأختان هما "سعاد" و"رباب"، يفصل بينهما سنوات قليلة، ولكن تعريف الأجيال في عصور منصات التواصل الاجتماعي لم يعد كما كان في الماضي (33 سنة لكل جيل)، إنما صار الفارق الجيلي أسرع بكثير. فـ"سعاد"، التي عاصرت التليفزيون في بداية حياتها تتصرف برومانسية مفرطة حتى وإن امتلكت أدوات التواصل في العالم الحالي، فهي تختلق القصص للغرباء وتختار حبيبا من محافظة الإسكندرية، المطلة على البحر، لتصنع حكاية لنفسها، تلك الحكاية التي تنتهي بتحول درامي جلل يقلب أحداث الفيلم ليعرفنا على أختها "رباب"، المختلفة كليا عنها، والتي لا ترضى أن تعيش الأحلام، وإنما تمتلك الجرأة لاختبار الواقع حتى وإن واجهت بعض المخاطر. "سعاد" حكاية لذلك العالم الذي تأتي منه تلك الشخصيات المعاصرة المهمشة بسرد سينمائي مغاير وصورة تخلق حالة شعورية تعوض غياب الحكايات الدرامية التقليدية. 

دفاتر مايا.. كتابة المذكرات بصريًا

في فيلمهما الروائي "دفاتر مايا" يعيد الثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج (نفس الثنائي الذي أخرج "أريد أن أرى" الذي عُرض في قسم نظرة ما في مهرجان كان السينمائي عام 2008)، استكشاف الحرب من خلال قصة لأسرة لبنانية مكونة من ثلاث نساء: جدة وأم وابنة يعشن في كندا. في يوم عيد الميلاد، وبينما الجدة موجودة بالبيت، يصل طرد من لبنان، تتحمس البنت لاستكشافه لكن الجدة تتوجس الخطر منه وتأمر الابنة أن تساعدها في تخبئته عن أمها لكي يمر يوم عيد الميلاد دون أحزان، الأمر الذي سرعان ما تكتشفه الأم عندما يقع الصندوق المُخبأ في القبو، لتبدأ رحلة الابنة أيضا في اكتشاف ما بداخله. تكتشف الابنة أن الصندوق المُرسل يحتوي على مراسلات بين أمها وصديقة لها في فرنسا في وقت الحرب الأهلية اللبنانية (مبني على مراسلات حقيقة للمخرجة في الثمانينيات)، ومن خلاله تستطيع التعرف إلى جانب من التاريخ اللبناني وجانب من تاريخ أسرتها أيضا طالما رفضت الأم إخبارها به. قد تبدو الحكاية معتادة، لكن ما يميزها بصريا هو تفاصيل مذكرات الأم التي تحوي صورا فوتوجرافية مصممة بشكل فني بداخل دفاتر، بحيث يمكن ترتيب تسلسل الصور فيما يشبه مونتاج بدائي، إضافة إلى شرائط كاسيت مرافقة للصور، واستخدام خلاق من قبل المخرجين لتلك التفاصيل البصرية في خلق عالم الفيلم. تصور الابنة تسلسل الصور وشرائط الكاسيت وتصنع منه مقطع فيديو باستخدام هاتفها الذكي، لتعلم الكثير عن قصة حب أمها لشاب في وقت الحرب وكيف وأدت الحرب قصتهما. يأتي جمال الفيلم من ارتباط كل تلك التفاصيل البصرية الخاصة بخلق الأم لمذكراتها بتفاصيل تسجيل الابنة لمذكراتها باستخدام الهاتف، الأمر الذي يخلق رابطا سحريا بينهما، حتى وإن اختلفت أدوات التسجيل. على الجانب الدرامي، فإن تلك التفاصيل تساعد الابنة والأم على خلق الحكاية الحقيقية لما حدث للأسرة ضد الحكاية المزيفة التي اختلقتها الجدة من أجل الحفاظ على سمعة الأسرة.

 مشهد من فيلم أعنف حب

أعنف حب.. يعيش الحب في برشلونة ويُموت ببيروت

انتقالا إلى الأفلام الوثائقية تعود المخرجة اللبنانية إليان الراهب (مخرجة "ليال بلا نوم"، "ميل يا غزيل") بفيلم تسجيلي جديد هو "أعنف حب"، الذي يتتبع شخصية "ميجيل" أو "ميشال جليلاتي"، المترجم اللبناني مثلي الجنس، الذي يسكن في برشلونة منذ عام 1994، واستكشاف حياته واختياراته بين معاصرته الحرب الأهلية في لبنان وما بين حياته في برشلونة. شخصية "ميجيل" تجذبك من أول لحظة: صريح ومنفتح، يحكي بلا توقف أمام الكاميرا، سواء في المقابلات التقليدية أو من خلال المشاهد التمثيلية التي تخلقها المخرجة برفقته، لكن الراهب ليست مجرد مخرجة مفتونة برجل مختلف، إنما تحاول هي أيضا وضع ما يرويه من ذكريات في خانة الشك، الأمر الذي يجعل الفيلم يسكن رأس المشاهد لأيام بعد مشاهدته بسبب جدلية السرد. إلى جانب التساؤلات التي يطرحها الفيلم حول الدين وعلاقته بأجسادنا والهوية الجنسية والحرب الأهلية اللبنانية، فإن أسلوب صناعة الفيلم يستخدم عناصر بصرية روائية أعطته هوية الفيلم الوثائقي فنيا وليس مجرد تحقيق صحفي.. فنراها تستخدم إسقاطا لصور من جهاز عرض "بروجكتور" على رأس "ميشيل" أو أقنعة لشخصيات من حياته، إضافة إلى عملية اختيار الممثلين المزعومة لإعادة خلق مشاهد من حياته أو حتى تخيل مشاهد لم يرها إلا في مخيلته. نكتشف في نهاية الفيلم الرابط بين إليان وميجيل واللقاء غير المخطط الذي قادها إلى شخصية فيلمها الأحدث، ومنح محبي السينما فيلما مميزا، الأمر الذي يؤكد المقولة الشهيرة "رب صدفة خير من ألف ميعاد"! 

كما أريد.. هل تكفي النوايا الحسنة لصنع فيلم جيد؟

الفيلم الوثائقي "كما أريد" هو التجربة الإخراجية الأولى للمخرجة الفلسطينية المقيمة بالقاهرة سماهر القاضي، والذي يدور حول مشهد التحرش الجنسي في مصر في الفترة بين 2011 و2013. يبدأ الفيلم بمشهد تحرش جماعي في إحدى المظاهرات أثناء ثورة يناير 2011، مع تعليق صوتي لشابة على أحداث المشهد المفزعة.. بعدها تظهر شابة أخرى تروي لنا بشكل مفصل عن معاصرتها الحدث، ثم تتنوع المواد المسجلة المكونة للفيلم بين لقطات لنساء يخضن مظاهرات ضد مرشد جماعة الإخوان ومشاهد لأحداث عنف في "وسط البلد" أسفل منزل المخرجة، إضافة إلى تصوير المخرجة لمقابلات رجال في الشارع المصري وآرائهم في قضايا التحرش ووضع المرأة، إضافة إلى تصوير المخرجة للمتحرشين بها في الشارع واجتماعات لنساء من أجل تعلم مواجهة التحرش. تحاول المخرجة أيضا خلق خيط لحكايتها مع أمها من خلال مراسلات تضعها المخرجة في صور وتعليق صوتي مصاحب، فضلا عن تصويرها لابنها الصغير وتفاعله مع العنف الدائر في المشهد، ومقابلات لفنانات مصريات يحاولن التعبير عبر لوحات فنية ولقطات عامة لا تبدو ذات صلة بموضوع الفيلم. على مدار 88 دقيقة نشعر أن الفيلم ما هو إلا صرخة طويلة بأن "التحرش فعل إجرامي ولا بد من ردعه" -وهو أمر متفق عليه- لكن الأسلوب المستخدم من ناحية المونتاج يبدو عبثيا بشكل لا يجعل من الفيلم أكثر من مقطع يمكنك مشاهدته على يوتيوب ولا يوفر أي نوع من التحليل أو الدراما، بل يمكن اعتباره مجموعة من فيديوهات تم تصويرها في الشارع عن قضية التحرش، وفيديوهات شخصية ولقطات بلا هدف مثل حادثة بحافلة في وسط القاهرة. الأمر الذي يؤكد أنه رغم نوايا المخرجة لصنع فيلم ذي قيمة جوهرية، فإنها لا تمتلك الحرفية الكاملة أو حتى الرؤية الثاقبة لشرح ما يحدث آنذاك في إطار سياقات أنتجتها لحظات سياسية معقدة. إلى جانب ذلك، فالفترة التي ينتمي إليها الفيلم انتهى مداها الزمني من ناحية قضايا النساء ونضالهن في المجتمع، والذي تطور في السنوات الأخيرة بشكل كبير من خلال الأدوات الرقمية وحملات التوعية على الإنترنت، أو من ناحية الحكم السياسي للإخوان الذي انتهى منذ سبع سنوات، وأصبح غير مناسب للحكم في إطار اللحظة الحالية. "كما أريد" يمتلك نية حسنة وقضية هامة، لكنه لم ينضج كفاية على مستوى الشكل أو المضمون لتقديم فيلم جيد. تلك الأفلام الأربعة شكلت إسهام صانعات الأفلام العرب في برلينالي 71 ووضعت بداية مبشرة لعام سينمائي مليء بمشاركات نسائية عربية، لتضاف إلى إسهامات المخرجات العربية الملهمة السابقة في السنوات الأخيرة مثل "الرجل الذي باع ظهره" لكوثر بن هنية، المرشح في القائمة القصيرة لأوسكار أفضل فيلم دولي، و"عاش يا كابتن" لمي زايد، الذي فاز بجائزة الجمهور في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2020.